أحرة هي الأقلام الملجومة بلجام الحياء؟
أم أن الحياء لا يتناسب مع كونه لجاماً بقدر ما يتناسب مع كونه احترام للأجيال القارئة، ورفعة الأدب؟
هل الأقلام الحيية أقلامٌ منقوصة الإبداع، مسلوبة الأفق؟
أم أن التلميح إذما تزين بالقوة والبلاغة؛ يغني عن التصريح؟
“حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب”
هذه جملةٌ مقتطفة من رسالةٍ أرسلتها مي زيادة في الزمن الجميل للأديب جبران خليل جبران.
هي العاشقة الغارقة في عمق بحر جبران العاطفي، تلوم نفسها على رسائلها للزاهد في محراب حبها، المكتفي بالحرف لا يبغي سواه.
إذ كانت الرسائل بينهما سبيل الوصل الوحيد الذي تعالى على حواجز المسافات عشرين عاماً.
رسائل بثها جبران مشاعره، وكتبها بسخاء لمي المقلَّة بالإجابة، المتلعثمة بالكلم في أحايين كثيرة، المحاطة بأسوار شرقيتها، والمتطلعة بحذر لحدود المجتمع الذي تحيا به، حتى أن جبران كتبت لها مرةً مستغرباً احترازها ” أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية”
أدب الرسائل -الذاهب نحو الاندثار إن لم نمنحه يداً تكتبه بشغف- حده في بلادنا ما قال عنه جبران “الاصطلاحات الاجتماعية” فالمجتمع يقول! والمجتمع يرفض! والمجتمع ينتقد! لذا بات هذا النوع من الأدب شيخاً عجوزاً يساق إلى قبره بصمت، يلحقه سوطٍ مجتمعي أقوى من احتماله وصموده، كأنما الرسائل وتحديداً ما يصنف ب “الرسائل الإخوانية” أداةٌ للتشبيب بكاتبيها، وعباءةُ فضيحةً تلقى على أكتاف روادها، فالإفصاح عن المشاعر، وبث الأشواق بالأقلام والمحابر، يندرج تحت بند “العيب” والشرقيون يحكمهم العيب قبل كل شيء.
“غادة السمان” مثلاً تعرضت لهجوم شرس في الوسط الأدبي بعد أن قامت بنشر رسائل كان “أنسي الحاج” الأديب اللبناني قد كتبهن لها، ولخصت غادة ما جاء فيها بعبارة “أحب أن تولعي بي”، يبث فيها عشقه وصفوة إحساسه، ليبدأ الانتقاد والجلد بسوط “الاصطلاحات الاجتماعية” فالناشرة يا سادة أنثى عربية!
وعلى الرغم من بعض جرأة اتسمت بها رسائل الحاج؛ إلا أنها استحقت أن تحفظ بين طيات الورق، لتقدم يوماً لجيل يتعرف على تاريخ أدباءه، ويعرف سيرهم، وليوثق حقبتهم الزمنية، كما فعلت مع مي وجبران.
وهي لو أنها -رسائل الحاج- نُشرت في مجتمعٍ غربي لما لاقت ما لاقته؛ حيث أن الأدباء الغربيين لهم في أدب الرسائل باعٌ طويل، يتسم أغلبه بالتصريح المعتاد لدى الغرب لا التلميح، ومن أمثلته رسائل الفيلسوف بول سارتر لحبيبته المفكرة سيمون دي بوفوار، ورسائل كافكا لميلينا، وكذلك الرسائل التي نشرتها العشيقة السرية لرئيس فرنسا السابق “فرانسوا ميتران” آن بينجو وقد تم نشرها في وقتٍ مقارب لوقت نشر غادة السمان رسائل أنسي الحاج.
أذكر إحدى رسائل طفولتي، التي كتبها في العاشرة من عمري لوالدي المهاجر أطالبه بزيادة نصيبي من المصروف، والتي عادت معه حين عودته للوطن، ليشاء حظي العاثر أن تقع في يد أخوتي منذ فترة قصيرة فأحظى بنصيبٍ وافرٍ من الاستهزاء والتهكم على الرسالة وفحواها الذي يوصمني بصفة “المادية”، لكن وللحق كانت سعادتي بها وبوجودها؛ درع حماية لي من تهكمهم، فكتابة الرسائل متعة للعقل، سرورٌ للروح وفي هذا يحضرني جزء من رسالة أخرى لمي زيادة كانت كذلك لجبران تقول فيه ” لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا”
كتابة الرسائل يا سادة حاجة نفرغ فيها خلجات أنفسنا، ونبث فيها ما نعجز عن بثه حين لقاء مع المبثوث إليه؛ ومتعة تتذوقها في مرورك على كلماتك بعد أن تحملها أحاسيسك مهما كان كنهها، ولذةٌ ترافق توتراً يعتريك في انتظارك لردٍ قادمٍ على ما كتبت، فلم نحرم أنفسنا من كل هذه المتع؟
أليس من المؤسف أن يغزو الشيب رأس أدبٍ شخصيٍ كهذا في غمرة عصر التغريدات والمراسلات السريعة؟
ألا يجب على أدباء عصرنا أن يسعوا لإنشاء جيل يعي أهميةَ الأدب التراسلي وتميزه، ويسعى لبث الروح في جسده الهزيل؟!
أم أن توجه الأدباء نحو اللون الذائع الصيت، يغلب على حميتهم اتجاه الألوان التي يكاد لونها أن يبهت؟
واجبٌ على الجالسين فوق منصات الأدب أن ينفضوا الأغبرة عن رسائلهم، وكما واجبٌ على أقلامهم أن تكون حرة صادحة؛ لكن في حدود ما يبقيها أقلاماً أدبية، تقدم اللائق بهذا الاسم، فلا تخشى الفضيحة مادامت تعي أن ما تقدمه لا يُخل بالذوق العام، ولا يعري الأدب من الأدب!
#A_F_H