الورقة الأخيرة:
” ورقتي الملتاعة في تورد ”
افترشتُ وهاد الحلم المعتم إثر السقوط من فوق السنم ذات ليلة ليلاء المحيا، أفل فيها قمرها وانطفأت نجماتها، وتوشحت بقطيفة الحزن السوداء حتى طغى عليها وسرى بكل خلجاتها، فاختنقت. تسائلني نفسي: أهذه هي النهاية المرامة من قبلك، أم أنها أحكام الحلم التي لا راد لها إلا بهدايا القدر؟! وهل بإمكان الفصول أن تقف حد الخريف، ولا يكتب لي ارتشاف قطرات الرضا المتندية من في الحلم؟
أفلا تخمل العواصف وتهدأ زوبعتها المثيرة لحنق الروح؟ ألا يستحي ذياك الثرى الجاثم على أوراقي إثر هبوبها؟
أما آن لشتاء عاجل يداوي أدران صديقه الآنف بديماته المطيرة، ويزيل آثار تدميره إياي، ويذيب تلك الرماديات التي أغارت على ألوان أوراقي فغبّرتها وطمست معالم بهجتها؟
أعلم أن أوراقي الآن متبتلة في محراب السكون، وأوكلت إليك يا صاحب الحلم منازلتي بالأحبار السيالة من محبرة البوح المعتلية عرش الروح تغسل شوائب الأوراق، لكني أرجوك أن تتمهل وتسأل مدادك أن يزم، ثم أنصت إليّ حتى أتم شكايتي، وبعدها جُد بما عندك من حجج أعلم مسبقا أنها وفق قوانين الروح واهية!
أنا من ضللتكَ في دروبي نفسًا، وأبصرتكَ ذات توق في مناماتي حلمًا، فانتشيت، وما علمت بأن في الغيب شيئا يحول دونكَ كي تتم، ويا ويح روحي! ما إن التقينا وأسكنتني فردوس السعادة ذات ربيع فواح بالحب قد اعتلى سدرة الحلم إلا وداهمتني فيك كتائب الحزن مرات ومرات تبغي اجتذاذ جذور أشجار الهوى المثمرة من نبض قلبك الضاربة في عمق الروح، وذؤابتها المورقة تعانق حليب الحلم.
لم يهدأ الواقع حتى خلَّى بيني وبينكَ وأخذ ينثر تعاويذ مادياته الآثمة بحواشيها الكدرة ونوائلها القاتلة حتى أمست أحلامي بك كوابيسا تلف جيدي بوثاقها تخنقني دون موت، تبعثرني بلا حياة، وعلى سدمات الرجاء تلقيني دون إلمام!
فبالله عليك أجبني، أليس من حقي أن أتفل على يساري من رؤياك ثلاثا إذا ما أنهكني حلولك في غبش الحلم الأليل؟
وزدت في الجثو على روحي ليال تعاتبني إن استعذت بالله منك، وترمقني عيناك تزهق سواكني دون إشفاق لندى ضعفي فيك ووجدي إليك!
دع تسابيح الفكر تخطو الهوينى، واستدعي داخلك القيّم الذي سبق وكان، وما زال سيد الحلم، لا تحيد عن الحق بمراوغات لا تسمن ولا تغني من حب لتثبت لي أنك لست أنت الرامق، وأنك ضللت الحلم ذات عتم فما ولجت، وأن من يتجلى لي في كوابيسي محض مسخ خاوي الروح والقلب، وأنك تعافر من أجلي كل ليل لتأتيني بصورتك الأولى.
يا سيدي، أنت من علمتني كيف أستقرؤك دون بوح، أنت من اخترت الإعراض، وعن قربي عدلت.
دعني أقول لك آخر سطر في مرافعتي، وسأدعك تكمل كيفما شئت: ” إذا كان رب الروح بالجفاء بادئ، أتراه يلين قلبه القاسي لشكايتي؟ ”
أطلق في الهواء زفرة حارّة يقتلع بها كل ما اعتمل الروح من كدر غرسه فيها مرافعتي البتّارة؛ ليلقيها بعيدا بعيدا بكل ما أوتي من نفس ثم قال:
ما تظنين أني قائل بعدما أسلفتِ، ادعيت، واتهمت وأقمت الحجة وعلي حكمتِ؟ وحتى أي افتراض محتمل أن أسوقه في مرافعتي، دحضت، وأقسمت بأنك تخبريني بأكثر ما أخبر به نفسي، وتقرأين حروفي دون بوحي!
يا سيدتي، أنت حوارء الحلم، وأن إنسي من طينه، ولقيانا كان محض نتاجات تولدت إثر كلمة واحدة أسقطها القمر من معجم تاجه المرصع بالحروف، فوقعت على قلبينا في آن واحد، فخمرتنا بافتراضاتها، وأسكرتنا بنبيذ خيالاتها، وأسقتنا كؤوسا يتلوها الكؤوس حتى آمنا بأن ليس لفجر الحقيقة بزوغ، وأن العمر حلما ربيعيا لن تطاله يد الأفول.
أتذكرينها تلك الكلمة، أم أنساكِ السُّكْر إياها؟
إنها ” لو “، أتذكرين حين انهلنا عليها بالسباب ذات وجد كاد يقتل كلينا، وكتب كل منا رسالة دون اتفاق حيث كان كل منا في مغيب عن غيره، فكانت رسالتي: لكم أبغضكِ يا لو؟!
ماذا لو تفضلتِ أيتها الحياة على روح تتهاوى ببرج عاجي يصلها بالسماء دون الأرض؟! ماذا لو… ؟ ولو بيدي الأمر لاجتذذت جذورك من معاجم اللغة، بل لانتشلت بذرتك من قبل الانشقاق والنمو؛ فأنت لا ينبت منك سوى سامقات الوهم! أيا لو.. !!
وكانت رسالتكِ انتظريني يا لو، انتظريني يا ” لو ” على جوانح الحلم حين يروح النهار حيث يغفو، ويصحو الليل يسارع أشواقه لمساهرة الروح، سيخبركِ النجم الأنور بما حوته روحي نحوكِ من توق توارى خلف هجير السكون، فانتظريني صدقا، سآتيكِ، وإن تعثرت طريقي فحبري لن يتعثر في طريقه إليك.
يا لو، أنت مؤنسي في الليالي الخانقة، وأنت ظلي إذا ما اشتد بي الحرور، وأنت كأسي إن فتت كبد الروح ظمأ الشعور.
أيا لو… !
فما إن بلغتها رسالتانا إلا وغضبت وثارت علينا ثم تراجعت على عقبيها؛ لتدبر لنا المكائد الوردية، وتحيك لنا الأحلام الخريفية، فعقدت سحر وهمها، وأغلظت العقدة، وأحكمت وثاقها، نفثت فيها من عزمها للإيقاع بنا، وها هي قد أوقعتنا في لجج تدابيرها، فأصابت أرواحنا سكرات الحلم إذ كان أجملها وأحلمها تلك التي تخبئني فيك حبا، وأوعثها وأثقلها حين كنت أدنو بكلي إليكِ، فلا أجدكِ، وعلى الرغم مما عانيناه من تناقضات المشاعر على أوتار حسّه، تلذذنا بها، واستكنّا إلى الكرى على خمائل خيالاته، ونهلنا من عذب سموه الدحضاح ورفعة معانيه واصطلاحته الشمّاء.
وهذه كامل الحقيقة سيدتي، فكما أن لكل ذي بدء نهاية، فها قد حان الوقت لإسدال الستار على ما تبقى بدواخلنا من حبٍّ صبغه الإله بلون ملائكي شفيف منزّه عن كل زلق مادي، تذوقناه، وتنفسناه، ورأيناه، ولمسناه، وسمعناه حين كنا أحياء فيه بأرواحنا على قيد الحلم وإن ظفرت ” لو ” بإيقاعنا في الوهم، فقد ظفرنا نحن بسبع منامات من جمال، وفي الثامن أدركنا حقيقة هذا الشعور الموصول بالسماء، وأن سمو الأرض إليه دون حلم خطب محال!