وعند تلك اللحظة أدركت ان حياتها لن تعد الى سابق عهدها ابدا، وشردت بفكرها طويلا لتسترجع الأحداث التى ادت بها الى هذه النهاية
رأت نفسها طفلة صغيرة دون السابعة مثل أى طفلة تحب اللعب والمرح والضحك ولكن انى لمثلها ان تنعم بتلك الأمنيات البسيطة فلا مكان للمرح والضحك واللعب وسط غابات الخوف
نعم ..هى معظم الوقت خائفة ..صحيح أنها وحيدة ابويها وتحيا فى كنفهما ولكنها حياة هى للموت أقرب
الأب قاس بدرجة لا تصدق وقسوته منصبة طول الوقت على الأم المسكينة التى لا تملك صد هجماته العنيفة عن نفسها ولا سلاح تملكه الا البكاء ..فقط البكاء طول الوقت
والأم نفسها ضعيفة ضعف كل من تربت مع زوجة أب لا تعرف الرحمة تجرعت معها كل أشكال الذل والهوان وعندما شبت وأصبحت أنثى كاملة الأنوثة ألقت بها الى اول من تقدم لها رغم أنها تعلم جيدا انه يحب ابنتها هى ولكن كيف لابنتها الحبيبة الغالية ان تتزوج ذلك الموظف البسيط الذى لا يملك من حطام الدنيا شيئا يذكر
فكان أن زوجته من ابنة زوجها فهى على مقاسه وليس لمثله ان يطمع فى اكثر من ذلك
ولم يجد الشاب القروى الذى يحيا بمفرده فى العاصمة الا ان يوافق على مضض ولكنه تفرغ كليا لتفريغ كل غله ويأسه واحباطه فى تلك التى فرضت عليه فرضا
وتجرعت المسكينة كل صنوف العذاب من ضرب واهانة وسوء معاملة
حتى أكثرلحظاتهما حميمية كانت الغلظة هى عنوانها.
ونشأت عن تلك اللحظات السوداوية مسكينة أخرى أتت لتشاطر أمها العذاب دون أن تنقص من نصيبها شيئا
وهكذا شبت هدى فى تلك الأجواء المشحونة والخوف سيد الموقف
الخوف من اللعب أثناء نومه ،الخوف من الضحك بصوت عال ، الخوف من التواجد بجانب أمها وهى تضرب حتى لا ينالها بعض من لكماته ، والخوف حتى من البكاء وحيدة والا كان العقاب جزاؤها
لم يكن يخفف عن الأم الا تلك الجارة الطيبة التى كانت تعلم الكثير عن حياتهم وكثيرا ما هرعت اليها الطفلة المذعورة لكى تزود عن امها وتخلصها من يد الاب الباطشة فهى الوحيدة التى كان بامكانها تهدئته حتى ولو جارت على الأم امامه لكى يهدأ
اما عند انفرادها بالأم كانت تحاول تجرئتها على الثورة فى وجهه والتمرد على ذلك الوضع المهين ،كانت تنعتها ضاحكة بالفأرة المذعورة دائما وكانت تمازحها قائلة : على الفأر يوما ان يقرض شباك الصياد وينطلق حرا
مرت الأيام لا جديد بها سوى ان هدى اصبحت شخصية ضعيفة مترددة دائما مذعورة دائما ..باختصار أصبحت فأرة أخرى
لم تحتمل الأم تلك المعاناة أكثر من ذلك وفارقت الحياة التى لم تنعم بها بلحظة سعادة ..انطلقت الفأرة تاركة فأرة صغيرة تعانى فى جحرها وحيدة
لم يكن يخفف عنها سوى جارتهم التى أصبحت تزورها يوميا حاملة الطعام تارة والفاكهة تارة أخرى
واستيقظت هدى يوما لتجد الجارة أصبحت زوجة أبيها .. وانتقلت بابنها الى العيش معهما، وهنا كشفت عن وجه الذئب وجهها الحقيقى
وبدأت هدى مرحلة أخرى من العذاب ،ويوما بعد يوم كبرت هدى وأصبحت فتاة جميلة ،وبدات زوجة الأب تنظر لها نظرات الحقد والحسد ثم مالبثت أن اخذت تخطط لتزويجها من ابنها الفاشل الذى لا يقل قسوة وغلظة عنها
وكان لها ما أرادت فقد أقنعت والدها الذى رفض فى البداية فالفتاة لا زالت صغيرة أقنعته بانه لايصح ان يترك( الجاز جنب الكبريت )على حد تعبيرها
وزفت هدى الى مجدى الذى كان مثالا للزوج الفظ الغير مسئول كان مازال يعامل معاملة الطفل من أمه التى سيطرت على حياتهما حتى بعد الزواج وكانت تدفعه دفعا لكسر شوكتها حتى لا تتفرعن عليه وكانت تسمعها وهى تقويه عليها قائلة : انها فأرة مثل أمها تخاف ويجب ان تظل خائفة حتى تسيطر عليها
هكذا كانت الحياة تسير بهدى التى أصبحت جثة تتنفس وتتحرك دون أدنى احساس بالحياة
ثم مات الأب وأصبحت هدى لقمة سائغة لمجدى وأمه يفعلون بها ما يشاؤون
كانت هدى تتعاطى أقراص منع الحمل خلسة لم تكن تريد أن تأتى للدنيا بفأرة أخرى تذوق ما ذاقته هى وأمها
وبدأ القلق ينتاب الحماه وابنها عن تأخر الحمل..فقد كانت الأم تحلم بحفيد من ابنها الوحيد
ويأتى اليوم الذى تكتشف فيه الحماة أقراص منع الحمل فى طيات ملابس هدى ..وقامت الدنيا ولم تقعد
انتظرت الام حتى عاد ابنها من سهرته المعتادة واخبرته بما وجدت وانهالا معا بالضرب على هدى حتى كسرت سن من اسنانها وشجت رأسها ونعتوها بالفأرة الحقيرة وسبتها حماتها بأمها التى كانت فأرة حقيرة مثلها ،وتركوها تنزف وحيدة شاعرة بأن العالم لا يسعهم سويا بعد الان
فى اليوم التالى قامت من رقدتها وقد عزمت على اصلاح كل شىء
أصلحت من نفسها وخرجت من غرفتها متجهة الى غرفة الحماة وقبلت رأسها ورأس ابنها وأبدت أشد الندم ووعدت بعدم تكرار تلك الفعلة، ثم ذهبت لاعداد طعام الغداء من كل الأصناف التى يحباها ولم تنس اضافة سم الفئران اليست بفأرة ؟
جالسة الان تنظر الى الجثتين الممدتين أمامها وهى تضحك ودوى صوتها عاليا : ان للفأرة ان تقرض شباك الصياد وتنطلق حره .
#نادية_رشاد
#الفأرة