والناسُ في مدينتِنا لا تأتي إلا في صورةِ ظلالٍ باهتةٍ تُقْبلُ حينًا _ عندما يحلُ الظلام_ تتجولُ في أنحاءِ مدينتنا، تسبرُ أغوارها، تسيرُ في شوارعها، تراقبُ الحوانيتَ، تدنو من ديارنا، تلقي علينا السلامَ فلا نسمعه، علمتْنا أمي ألا نسمعه، علمتنا ألا نراهم، ألا نشعر بوجودهم، أخبرتنا ذات يومٍ ليس بالبعيد …وصوتُها مازالَ يدقُ أبواب قلبي .. أن الإقتراب منهم احتراق، وأن معرفتهم…اغتراب، وأن دُنونا منهم هو التنائي بعينيهِ، وشبَ طوقي علي هذا؛ فاعتدتُ أن أصمَ مداخل أذنيَّ دُونهم، أغمضُ مدن عينيَّ عنهم؛ فأصبحتْ روحي لا تراهم، لا تسمعهم غير أني في بعضِ الأحايينِ… كنتُ أشعرُ بهم، فأهرولُ نحو صدرَ أمي أسألُها الأمانَ.
فلماذا الآن إذًا …لماذا أسمعُ دبيبَ أنفاسهم؟ استشعرُ صوتَ خطواتِهم… ها هو يتعالي أكثرَ فأكثر، لقد اقتربوا حدًا كبيرًا، اقتربوا حد الدنو، حد الترائي، حد الإلتحام، فماذا أفعلُ الآنَ يا أمي؟ فليُخبرني نبض قلبكِ، فها أنا أراهم ماثلين أمام صرح عينيَّ، شاخصين أمام ذات رَوحي، لمَ أفلتِ يدي يا أمي وسط هذا اليم؟ …. لا قبلَ لي أنا بمواجهة أمواجه، ها هي أنفاسي تتثاقل ويتخافت نبضي، ها أنا أقتربُ من الإغتراب…أدنو من الإحتراق، غير أني في غمرةِ كل هذا النزف، تذكرتُ ملامح صوتكِ يا أمي؛ فلذتُ بهِ، استنشقتُ همسه، استحضرتهُ من أعمقِ نقطةٍ في بحارِ نفسي، أحاطني بهالةٍ من فيض نوره، لمسَت ذراته شغافي، طبعَ قسماته علي أرجاء نفسي، جالَت نغماته عبر حدودي، شملني بأمانه السرمدي؛ ففتحتُ عينيَّ…
فلم أر أنا إلا مدينتنا تحت ضوءٍ من شعاعِ شمسِ النهارِ..
فإني أحُبك يا أمي حدَ السماءِ…
و ما وراءَها.
#عبير_مصطفى
#فتذكرت_ملامح_صوتكِ