تتأبط ذراع الألم ترافق أحزانا ليس لها من دون الله كاشفة، رداء واسع يتململ فيه جسدها المتهاوي ، عيون تشق عباب الكون، غاربة منها الحياة.
فى شارع يعج بالبشر، تتوارى إيمان فى جدران البيوت وتتوه فى لافتات المحلات لا يوقظها سوى أبواق السيارات الصارخة في غفلتها.
تفيق تلملم ما بقي من وعيها، خطوات تغوص في أحزانها الموحلة، أمام عمارة قديمة تقف، تصعد السلم، أنفاس متقطعة، وضربات قلب تخبر بقوة أنها مازالت علي قيد الحياة.
تتمتم قائلة :
ما أصعب أن يملأ روحك الخواء كشجرة قد تعرّت من أوراقها ولفّتها عاصفة هوجاء.
تئن حنينًا لنفسك وعطشا لزخات حب قد تحيي قلبا قد شارف على الفناء.
ماعادت تقوى على الصمود بعد أن كاد عقلها يذهب في أثر روحها.
أمام عيادة لدكتور نفسي يسمى محمد عابد استشارى أمراض نفسية وعصبية تتأمل اسمه تدلف الى داخل العيادة تسجل اسمها، تجلس تتفحص وجوها ذابلة وأرواحًا تطوف حولها، تشعر بهالاتها تقترب من روحها الولعة ، تتكور في كرسيها يغطيهاثوبها الفضفاض.
تدلف الي غرفة الطبيب، تتقدم، يشير الي الكرسي دون أن ينظر اليها، منكبًا على كتابة أوراق أمامه.
تسند رأسها علي الكرسي تتنفس بعمق وتتمتم.:
بأى ذنب قتلت؟! تصدم الجملة أذنيه، ينتبه لتلك الجالسة أمامه تتكلم، بوجهها الذابل وشفتيها اللتان غادرتهما نداوة الشباب وتشققا عطشا لرونق الحياة عيناها تدوران في حالة هذيان، جمال باهت، كزهرة، قد جف غصنها
فأى ماض سيحكيه هذا الوجه الذابل؟
يبدو أنها فقدت التاريخ، شبه مغيبة تهذي تارة .وتنطق أخرى
مازال الطبيب يحدق بها يستجدي صمتها، ساوره فضول شديد ليعرف ماذا حل بها؟!مسح ببصره وجهها؛ تفحصها جيدا.
وتمتم: هذه المرأة جميلة، فما الذى أطفأها؟ ما الذى استطاع أن يسلبها الحياة، جسد حاضر وأنفاس متلاحقة، كأنها تعدو خلف شئ، ماهو هذا الشئ؟ أهو ذكريات لحياة مضت؟! أم محاولة للملمة ما بقى من العمر؟!
لم تنطق بكلمة سوى أن قالت بعد جهد جهيد: أريد الموت، أطلق عليّ رصاصة الرحمة، ثم غابت عن الوعى.
أفاقت والطبيب بجوارها يقول:
ها قد وصلت للشاطئ، ألقي أحمالك، لابد أن أعرف فلم أصادف فى حياتي كل هذا الحزن، لم يؤثر في مريض هكذا من قبل، بأي شئ دخلت علي حتى يسكننى حزنك هكذا؟!
حملت إلى الجزء الملحق بالعيادة، أعطاها مهدئات لتنام على أن يأتيها غدًا ليعرف قصتها وكيف وصلت اليه وهي بهذا الشكل؟! وما الذى جعلها تصل لهذه الحالة؟! إنها ميتة جسد يتنفس دون روح.
حجرة تضم العشرات من النسوة يسمونه عنبر
تجلس على سرير ذا شراشف بيضاء، تتمسك بأعمدة حديدية لنافذة تطل على حديقة واسعة، كثيرات من هن مثلها، فلا تدرى ما الذى أوصلها الى هنا، فقد كانت ثابتة قوية، كانت صديقاتها يلقبنها بالمرأة الحديدية، ولكنها اكتشفت أن الحديد مع العمر وعوامل الحياة يصيبه الصدأ، يتآكل، ولو تعرض لحرارة شديدة يذوب، كذلك صارت، جسد قد تآكل.
صراخ من هذه، وهذيان من تلك، بينهم تجلس ليست معهم عيناها تسللت من بين أسوار النافذة الى دنيا أخرى تأخذها، لا تدرى لها كنها، فما عاد لها مكان فيها.
هل يمكن أن تعيش بعده؟ وكيف يكون ذلك ؟
تسرح بذاكرتها التي تحضر وتغيب، علي ماض قريب، تبتسم ابتسامة باهتة، ترفع يديها وكأنها تحتضن أحدهم وتقول:
كم اشتقت اليك يا حبيبي؟ تخطفتك طيور الموت السوداء، هلم إلى حضن قلبي، دثرني بك، لم أعد أطيق برودة الحياة بعدك
تطبق بذراعيها تحتضن نفسها، وتصرخ وتصرخ
تضرب بيديها حديد النافذة، لتحضر الممرضة لإعطائها مهدئا، فيسترخي الجسد المتشنج ثم تهدأ وتنام
في المساء يقتادونها إلى حجرة الطبيب
ما أن جلست حتى قالت :
أيمكن أن تعيش بدون روحك؟ لقد فارقتني روحي حين فارقني
عشت يتيمة، لم أحظ يوما بحضن يحتويني
واجهت الحياة صغيرة، مع أب ضعيف، وزوجة متسلطة، ولذلك لم أعرف الحنان قط،
لم أتوقع أن تمنحني الحياة طوق نجاة في بحر حياتي المتجمد، تفوقت في دراستي، رغم المشقة الشديدة في خدمة زوجة أبي وأخوتي الصغار، تخرجت من كلية الآثار، بامتياز وعينت معيدة في نفس الكلية، حينها شعرت بأن الحياة بدأت تضيف لونا آخر يمحي سوادها الذي غلف حياتي بعد وفاة أمي.
ومضت حياتي بائسة فرغم جمالي الذي يشهد به الكثيرون إلا أن حياتي القاسية أكسبتني
مظهرا جافا وحروفا يابسات، فكان الجميع يخاف أن يقترب مني، لم يعرفوا أن خلف هذه القشرة الصلبة، نهرا من رقة يفيض حنانا.
وسار بي ركب الحياة ولكن الأقدار قد ترسل لك صدفة تغير مجرى حياتك، وهذا ما كان معي.
في أحد الأيام كلفتني الجامعة برحلة مع طلابي إلى الأقصر وأسوان
رغم امتعاضي من التكليف، ذهبت مرغمة، وهناك، أعجبني الجو جدا جميلة هي هذه المدن في الشتاء. أهلها شوارعها وآثارها
استطردت وهو يستمع إليها :
هناك بدأت حياة كانت تنتظرني، استقبلنا فوج من كلية الأثار ورأيته، حبيبي الأسمر، أطلقت عليه حبيبي منذ أول لحظة رأته عيناي، وكأنني أعرفه، نعم، أتعرف معنى أن ترى أحدا لأول مرة وتشعر أنك تعرفه؟! تعرفت عليه منذ الوهلة الأولى، اخترقت روحه لتسكن روحي، اطمأن قلبي له دون حتى أن نتحدث وكلما رأيته ازداد يقيني بأن هناك ما يجمعنا.
وكأن روحه قد غرست بذرتها في روحي فاهتزت وربت
تجول معنا في المعابد والمتاحف في الأقصر، وانتقل معنا إلي مدينة أسوان، عرفت أنه منها، كثيرا ما كان يوجه حديثه إلى مخاطبا، فأفيق منه لأعود إليه.
في أحد الأيام أخذنا في رحلة نيلية. بدا الجو رائعا والنيل يحتضن أخر شعاع شمس .. مررنا على مكان أرسى المركب أمامه ونزلنا ،
أشار بيده إلي قائلا:
قبر ضخم على شاطئ النهر، سأروي لكم قصه جميلة، يتسامى فيها الحب ليعلن أنه إن وجد حب حقيقي، فسيبقى وإن تعاقبت السنون
واستطرد قائلا:
في ذلك القبر دفن الملك الهندي الشاه محمد أو الأغا خان
كان متزوجا بفرنسية جميلة عاشت من بعده 43سنه بعدما أشهرت اسلامها وسميت أم حبيبة
أصيب زوجها بتعب شديد في قدميه نصحه أحدهم بالذهاب الي أسوان ليدفن نفسه في رمالها الساخنة وبالفعل تم شفاؤه.
ومن وقتها وقع في غرام أسوان فعاش فيها وقرر أن يدفن جثته هناك وبالفعل تم له ذلك.
عاشت زوجته من بعده في قصر قد خصصه لها وكانت كل صباح تضع وردة حمراء علي قبره وأوصت الرجل الذي يعمل في المقبرة ان يضع ورده حمراء عندما لا تكون موجودة، إلا أن دفنت بجواره.
فظل قبرهما مزارا للعشاق، يقف شامخا ليكون دليلا على دوام الحب حتى بعد الموت.
التفت لينظر إلي بعد أن أنهى حديثه، فوجدني غارقة في دموعي، وضع يده في جيبه وناولني منديلا ورقيا لأمسح دموعي،وهو يقول: الحب شئ سامي إذا تصادف قلبان واكتمل كل منهم بالآخر .
بت ليلتي: أتخيل هذا الرجل وزوجته، وأتساءل أهناك حب هكذا في هذا العالم؟!
أم أنه محض خيال.
في الصباح…. باقي يوم على انتهاء الرحلة، وذهب الطلاب كل يحضر ما يريد أن يشتريه من تذكارات لأهله وأصدقائه.
جلست في بهو الفندق أشرب قهوتي، خطوات أقدام تقترب، أرفع رأسي لأجده، ابتسامة منه تقابلها ابتسامة مشرقة مني وكأنني طفلة تنتظر أباها في لهفة وعندما رأته أشرقت أسارير روحها.
ألقى على السلام فأشرت له بالجلوس.
لحظات من الصمت ثم بادرني قائلا ً:
ألن تذهبي لشراء بعض التذكارات يمكن أن أصطحبك إن أردت فابتسمت قائلة،:
ليس لي أحد أحضر له تذكارا، فابتسم وقال:
إذا اسمحي لي أن أدعوك على الغداء، ولتكن آخر لحظاتك هنا على شاطئ النيل، فهو جمال لا يجب أن تفوتيه. ولكن قبلها لابد أن نستضيفك فقد تعرفت على الآثار والجو ولابد أن تتعرفي على أهل البلد وحسن استقبالهم لضيوفهم، لذلك اسمحي لي بهذا الشرف ثم ابتسم قائلا:
ولن أقبل أي رفض.
تبسمت في خجل وخرجت حروفي تهزها رعشة التوتر هامسة :
هل لي أن أرفض
وسرحت بعيدا تحدثها نفسها قائلة:
لقد سبقتني روحي وأعلنت دقات قلبي موافقتها، دون أن أنطق.
في سيارته نقطع طريقا طويلا، وجدتني أمام بيت جميل له بوابة عتيقة وعلى واجهته ينبت الياسمين ليغطي واجهته، طرق الباب، ففتحت لنا سيدة بشوشة، مددت يدي لأسلم عليها فاحتضنتني، شعرت بحنان وراحة لدرجة أنني تمنيت أن أبقى في حضنها مدة أطول.
كانت أمه، هو ابنها الوحيد،هكذا أخبرتني
بعد كرم الضيافة والحفاوة الشديدة، جلسنا وأنا أنظر إلي فنجان قهوتي أغوص فيه أتساءل : لماذا أنا صامتة؟!وهذه النبضات لا تهدأ قليلا، أشعر بحرج شديد
بعد لحظات صمت
بادرني قائلا:
إيمان، اسمحي لي أن أنطق إسمك مجردا. لا أعرف ماذا أقول؟! ولا من أين أبدأ؟!
ولكن هناك شئ ما يجذبني إليك وكأن روحي قد علقت بروحك. وكأنها عصفورا قد بنى عشه
على شجرتها.
لن أقول أحبك، فما أشعر به لا أعرف اسمه ولكنه شئ يملي علي أفعالي وأقوالي، لم أتوقع أن أكون جريئا هكذا، أو أن يحدث لي هذا، أستمع إليه وكل ما في ينطق إلا لساني وكأن حمما في بركان روحي الخامدة قد تطايرت
لتعلن، حبها وتظهر حمرتها الساخنة على صفحة وجهي
ثم قال وهو ينظر إلي: إيمان أريد أن أتزوجك، تلفت إليه فاغرة فاهي، غير مصدقة، وقد حبست الحروف في حلقي لا أستطيع أن أنطق.
مازال يتحدث بلهفته وصوته الصارخ بالحب:
لا تصفينني بالجنون، فعندما رأيتك شعرت بأنك لي وكأنك أحد ملكات الفراعنة التي درست حياتهن، لم أتمالك روحي وهي تتعرف عليك لتعلم أنك نصفها الغائب الذي بحثت عنه طويلا.
عرفت أنك غير مرتبطة فلا يوجد خاتم خطبة أو زفاف، لم أستطع أن أقاوم رغبتي، كان لابد أن أقول لك عن شعوري مهما كان رأيك.
ثم نظر في عيني وقال :
أحبك،فهل توافقين على الزواج من صعيدي. ابتسمت وبكيت، دموعا لم أذق طعمها من قبل، سمعت عنها ولكن لأول مرة أشعر بحلاوتها، كانت دموع الفرح
حالة غريبة انتابتني لا أصدق ما أسمع وكأنه حلم، أخاطب نفسي:
هل سأعيش الحب؟! وأتزوج وقد تجاوزت الخامسة و الثلاثين من عمري؟!، هل سيكون لي حبيب يمنحني ما حرمت منه من حنان ومودة؟! ربت على كفي وقال لم تقولي رأيك يا قاهرية :
فأطرقت وأومأت له علامة الإيجاب
كان يقفز من الفرحة. وهو لا يعلم أنه أهداني حياة، سأعيش مدينة له بها.
حضرت أمه لتأخذني مرة أخري في حضنها وتهنئني، فلم أكن أعرف أنه حدثها عني، أمسك يدي و بادرني قائلا:
سوف أذهب معك، ليكون زفافنا قريبا فلقد انتظرتك كثيرا، ولن أتركك بعد الآن.
تم الزواج وأزيحت القشرة الصلدة التي كانت تكسوني، ملأ حياتي حبا وكأنني ولدت من جديد من رحم حبه، صرت رقيقة كوردة، أطير كفراشة، كان من يراني يتعجب أهذه هي إيمان التي لم تكن تبتسم حتى مصادفة؟! وتمشي تجر قدميها وكأنها تحمل فوق أكتافها أعواما ستين.
تطير وتغني كبلبل قد وجد رفيقه ، فشدا أعذب الألحان، تغير لون الحياة، صار لها طعما جديدا. وكيف لا فلم أعرف أن الحب حياة حتى أحببته.
عشنا بين القاهرة وأسوان، غمرتنا السعادة، حتي تحولت الحياة لجنةو اكتملت سعادتنا بجنين ينبض في أحشائي.
مازال الطبيب يستمع لها.
في لحظة غشيتها غيمة حزن وتقهقرت في جلستها وكأن ليلا قد كسا وجهها
ثم نطقت حروفا بطعم الدموع وكأنها تحدث شخصا غائبا :
اغتيل الحب وأظلمت سمائي
مات دون سابق إنذار، وجدته بجواري، دون حراك صرخت، ناشدته أن يبقي ولكن اختطفه الموت أثر أزمة قلبية مفاجئة.
تركني في العراء، ضعيفة مكسورة بدونه.
ثم انهارت كجبل قد دك، فصار ترابا.
غابت عن الوعي وبقيت تحت العلاج والمتابعة من الطبيب الذي تعاطف مع حالتها وخاصة أنها كانت في شهور حملها الأخيرة. حتى تماثلت للشفاء، لم يكن يقوم على زيارتها إلا خاله. فبعد وفاة أبيها لم يعد لها أحد في هذه الحياة، إلا أمه وخاله الذي كان يعاملها كابنته.
أوصي الطبيب بأن توضع تحت العناية في مستشفي متخصص فقد قاربت على وضع مولودها الذي أطلقت عليه نفس اسم أبيه، بعد الوضع، سافرت إلى أسوان لتلقي بنفسها في حضن أمه و كل صباح كانت تذهب إلى قبره لتضع عليه وردة حمراء
تمت
حنان