زمان كانت كرة القدم هى متعتنا الرئيسية، وعامل من أهم العوامل اللى ساعدتنا واحنا فى مقتبل الصبا، وسن المراهقة الخطير، على أن نتغلب على أى مغريات للانحراف، كنا بنطلّع فيها طاقاتنا الزائدة، ولما نقول كرة قدم، يبقى لازم اللى مش فاهم يفهم، المقصود هنا هى الكورة الشَراب، مين فينا مايفتكرش إنه إترّن علقة سخنة بسبب سرقة شَرابات أبوه لزوم تصنيع الكورة، وبعد مرور السنين دى كلها، أستطيع أن أعترف دلوقتى، إن من أجمل لحظات عمرى لما كانت فردة شراب جديدة من شرابات الوالد الله يرحمه، تقع من على حبل الغسيل، وامى الله يرحمها تطلب منى إنى أنزل أجيبها، كنت باستهبل طبعا وانزل ، واطلع اقول لها ما لقيتش حاجة، وانا فى الحقيقة مِدَكّنها عشان عندنا ماتش فى الشارع وعايزين كورة، وكنا بنعرف ننتقى الشرابات كويس ونفهم فى أنواعها، يعنى الشرابات الصوف بتاع الجيش كانت أحسن شرابات، وبعدها الشرابات القطن إنتاج المحلة، وكانت أسوأ الأنواع على الإطلاق الشرابات السورى الشفافة، لأنها كانت بتتقطع مع أول شوطة.
كان عندنا فى دولاب الهدوم درج للشرابات، فى الحقيقة هوّ كان درج لفِرَد الشرابات، لأنه كان من النادر جداً إنك تقدر بسهولة توفَّق فردتين صح، كان عبارة عن ألوان سمك لبن تمر هندى، وكانت أمى الله يرحمها بتقعد بالساعتين على الأرض وتخلع الدرج من الدولاب وتقسِّم علينا فِرَد الشرابات، والجدع اللى يقدر يوفق فردتين شبه بعض، ياخد صوبع عسلية مكافأة، وكانت آخر القعدة دى تطلع لها بجوزين تلاتة، تاخدهم وتمشى فى دلال، تحاول إسترضاء الوالد، وتتمنى إن الغزالة بتاعته تروق، وياويلها بقى لو حاولت تستغفله، وتِدّى له فردتين واحدة رمادى فاتح، والتانية رمادى غامق، على أساس إنهم شراب واحد، بس فردة بهتانة شوية، ومش ح تبان مع اللبس، كان البيت كله بيتقلب غم، وأخرتها نسمع باب البيت بيتهبد، والحاج نازل غضبان وهوَّ بيشتمنا كلنا، وبيقول : “وآدينى نازل بصندل عشان يعجبكم يا اولاد الكلب”.
وفى منتصف السبعينات من القرن الماضى، حدثت ثورة تكنولوجية هائلة، ودخلنا عصر البوليتيكس، تخلصنا من الشرابات، وظهرت الكورة البوليتيكس، وهى عبارة عن إسفنج مضغوط فى كيس نايلون، وملفوف عليه خيط دوبارة، ومغموس فى محلول بوليتيكس، وهو سائل مطاطى يشبه اللبن الحليب، ويُترك ليجف، ويعطى لخيط الدوبارة شكل وقوام المطاط، بحيث يمكنك فى النهاية الحصول على كرة متينة، ولا تحدث لها أية مشكلة على الإطلاق إذا سقطت فى بركة مياه، حيث أن طبقة البوليتيكس تمنع وصول المياه للداخل، وتحافظ على جفاف الكرة، ثم أنها طويلة العمر، بعكس الكورة الشراب التى كان بقاؤها ككرة مرتبط بمدى تحمل البالونة المنفوخة التى كانت توضع فى الداخل بدلاً من الإسفنج، ويتم لف خيط الدوبارة عليها، ثم توضع داخل الشراب، وكانت هذه البالونة سهلة الانفجار فى اى لحظة.
كان العيب الوحيد فى الكورة البوليتيكس هو صعوبة الحصول على الإسفنج بطرق شرعية، فلم نكن نعرف من أين يمكن لنا أن نشتريه، بعكس البوليتيكس وخيط الدوبارة اللى كنا بنشتريهم من عند السيد صالح من سوق الحضرة، وعشان كده كنا بنشترى الإسفنج من العيال الصيّع اللى كانوا بيسرقوه من كراسى الترماى والأتوبيس والسينما، وكان الأخوان ميسو وكنّو من أكبر موردي الإسفنج لنا فى الحتة، وكانوا بيبيعوه لنا بالغصب، يا إما كده، يا إما يحرمونا من اللعب فى الشارع من أساسه.
الحقيقة كانت ذكرياتنا مع الكورة الشراب جميلة، واللى دارت أغلب أحداثها فى شارعنا، أو خلف نادى الاتحاد السكندرى، وفيها كثير من المواقف الكوميدية اللى مش ممكن تتنسى، ما اقدرش أنسى مثلاً مشاوير الجرى قدّام المخبرين، لما مدام هنّو، الله يرحمها، كانت بتطلب لنا بوليس النجدة، ولا يوم ما جريت واستخبيت فوق سطوح بيت عم محمد القماش، وفضلت لابد فى عشة فراخ زى حرامى الغسيل، لحد ما البوكس مشى، ولا يوم ما وقعت الكورة فى مدرسة “سان جان انتيد”، ونط الواد دوحة يجيبها، وشاف شجرة يوسفندى، ريقه جرى، ولسه ح يقطف منها، لقينا الراهبة فوق دماغه، وراسها وألف سيف تجيب له البوليس، “علشان هوّ هرامى، مش كويس، بوظ شجر، وإسرق ماندارين لسّه بيبى أخضر”.
من الحاجات اللى مش ممكن تتنسى، منظر الأستاذ عبد الفتاح، جارنا، ومدمن الترشح لعضوية مجلس الشعب، واللى كان بيسقط على طول، واللى كان بيعترض دائماً على اللعب فى الشارع، وكان يفتح الشباك فجأه، ويطلع لنا بفانلة حمالات، ويصرخ فينا: “يا عالم مش عارف أنام، إنتو بتموتونى بالبطىء”، كان منظره بيفكرنا وهو طالع من الشباك بإعلان مسحوق غسيل رابسو، علشان أطلقنا عليه “أستاذ رابسو”، ولما غُلب حماره معانا وحاول يكسبنا باى طريقة، إستغل نزوله الانتخابات، واشترى كأس صاج، وعمل لنا دورة كوره فى الشارع، وجاب كرسيين وترابيزة مخلّعة من قهوة بعجر، وقعد على الرصيف قدام البيت وبجانبه الكابتن الشاطبى المكوجى، راعى الرياضة والرياضيين فى الشارع، وعلَّق ورا منه يافطة قماش مترين فى متر مكتوب عليها (دورة سداسيات شارع البرنس ابراهيم لكرة القدم…. تحت رعاية الكابتن عبد الفتاح سيكا، رمز الكَنَكَة، مرشحكم لعضوية مجلس الشعب)، وتظاهر بإنه مبسوط بينا، ووزع علينا صندوقين إسباتس، وعدّى اليوم زى الفل، لحد المبارة النهائية بينا وبين فريق أولاد الحلموشى، وعنها واتصلحت كورة على رجل سعد سالم، وراح رازعها بشماله الطرشة ع الطاير زى المرزبة، والكورة ما تنقيش غير وش الأستاذ رابسو، وتروح لابسه فيه، وتخرشمه وتكسر له النظارة، وعنها وراح قايم وشايل الكاس، ومسَنِدينُه لحد باب الشقة وهوّ عمّال يسب لنا، وينعل سنسفيل أبو جدودنا على أبو مجلس الشعب على الكابتن الشاطبى اللى شار عليه الشورة المهببة دى، ويادوب ربع ساعة ولقينا بوكس البوليس جاى، ولمونا هيلا بيلا على قسم سيدى جابر، أتارى الأستاذ رابسو إبن الأيه بَلِّغ عنّا.
كان عندنا فى الشارع فريق قوى كله حريفة، وبيلعب كورة جميلة، وكل واحد بيتميز بحاجة، سعد سالم بقوة الشوط، والقدرة الغريبة على لعب الكوره (سكروه)، وجمال رشدى، الله يرحمه، بسحبة السبعة بتاع المرحوم سمير قطب، ومصطفى الشامى، الله يشفيه، بالترقيص والألعاب البهلوانية، والعبد لله بدقة ضربات الرأس، وحسن عرفة بالقدرة الهائلة على صنع اللعب، وكانت نقطة الضعف فى فريقنا هى حارس المرمى، كان عندنا جون خرابة بمعنى الكلمة، الله يسامحه بقى إسمه طارق المجرى، كان عبارة عن نفق واقف على رجلين، شغلته بس يعِد الكور اللى بتعدى من بين رجليه.
كان بييجى لنا فرق كتير أغلبها من الحضرة، وكانوا حريفة جداً بس بيتغلبوا على طول علشان مش فى دماغهم المكسب، قد ما بيهتموا بجمال اللعب، ييجوا يمسحوا بينا الأرض، وفى الآخر يطلعوا مغلوبين، بيفكرونى بنادى الزمالك، يطلعوا مغلوبين، بس الجمهور فرحان قوى، وتلاقى اتنين زملكاوية طالعين من الماتش بعد ما طلع الزمالك من الكأس، بيقولوا لك: “شفت الخرم اللى هَبَدُه فاروق جعفر للباك”، وده على فكرة بالمناسبة السبب فى الحالة الفقر اللى فيها الزمالك.
كانت فرق الحضرة دى هىّ الوحيدة اللى بتلبس زى موحد، وما تروحش بتفكيرك لبعيد، أحسن يجوز تكون فاكر إنهم كانوا بيلبسوا من أديداس مثلاً، لا خالص، كانوا لا مؤاخذة بيلبسوا بيجامات، وحافيين، بس الحق يتقال، كانت بيجامات لون واحد، مقلِّمة أبيض فى أزرق، أو أبيض فى أخضر، السر طبعاً اللى عرفناه بعدها كانت وراه شركة كابو، نظام توْب بقى، والشارع كلُّه يفصَّل منه، لسّه طبعاً فاكر بعض أسامى الكباتن دول؛ مَنَّص، حوكا، الونش، كباطة، والوحيد اللى كان إسمه مفهوم شوية كان صبحى، بس الحق يتقال كانوا مؤدبين وبيحبونا جداً وبيحترمونا جداً، ومعجبين بينا باعتبارنا ولاد مدارس ومتعلمين.
كنا قبل ما نبدأ الماتش، نتفق الأول، الفورة من كام، لو الوقت قدّامنا براح ولسّه على المغرب ساعة مثلاً، تبقى الفورة من 8، ولو الموضوع ح يدخل فى ضلمة، تبقى الفورة من 6، ولازم اللى يكسب ، يكون مكسبه بفارق جونين، يعنى لو الفورة من 6 مثلاً، واتعادلنا 5 /5 ، نلعب (شوز) من 2، اللى يجيب جون، يبقى كده واحد فى الشوز، ولازم يجيب التانى، ولو اتعدلنا 1/1 فى الشوز، نلعب شوز تانى من 2.
كنا بنلعب من غير حَكَم، كان بيحكمنا الضمير بس، يعنى مثلاً اللى يتعمل ضده فاول، يروح ماسك الكورة وقايل فاول، دون اعتراض من الخصم، وممكن الجون يتلغى بحجة إن الكورة عالية، مع إن مفيش عارضة من أصله علشان تظبط لنا الإرتفاع، والمرمى بيتحدد بطوبتين، أو لو لسّه راجعين من المدرسة، وما روّحناش البيت، بنحط شنطين من شنط المدرسة، وبمناسبة الشنط دى، كان ساعات لما نطلب من لعّيب يحط شنطته لتحديد المرمى، يقول لك: معلش يا كابتن، مش ح ينفع، أصل الشنطة فيها دين (يقصد كتاب الدين)، وعلى فكرة العينة دى من العيال، همّ دلوقتى اللى بقوا قادة فى الأحزاب الدينية.
معرفش ليه افتكرت حكاية الفورة من كام دى، وأنا باتفرج على تسجيل لماتش مصر وغانا فى نهائى تصفيات أفريقيا لكاس العالم الماضية، واللى انتهى 6/1 لصالح غانا، مش عارف أيه اللى خللانى افتكرت إن اللعيبة بتوعنا كانوا بيلعبوا ع الفورة مش ع الوقت.
د.قدرى نوار