نداء من الماضي
في ذلك المقهي القصيِّ حيث كان ميلاد لقاؤنا الاول جَلَسَتْ..
وحدها جَلَسَتْ..
أراها من حيث لا تراني..
أتلصص النظرات علي شواطئها العنبرية..
يداعبني نسيم حب غائر عتيق وعشقا ظننته مدفونا تحت أنقاض الزمن.
أتحيَّن شواردها لأغزو شوارعها وأنثر لثماتي الحارة علي ربوعها ووديانها، وقد أرَّق الحنين روحي فحركها، وأشعلت الذكريات جذوة الشوق وأحمتها.
مازالت كما هي..
جميلة كما هي..
مازالت تعشق القهوة..
وتلعق شفتاها بعد كل رشفة..
لم تتغير..
ولم ينبش الزمن فيها أنيابه..
لم يخلف عليها بصماته التى يطبعها عادة علي أجساد السائرين فى دروبه القاسية..
فشعرها الأسود المخملي المسدول مازال يتراقص مع النسائم رقصة عاشقَيْن تفرقا قبل حرارة اللقيا ثم ينساب فى خفة علي جيدها اللؤلؤى ليهامسه بحلو الكلام وأعذبه.
مازالت كما هي..
جميلة كما هي..
عيونها الدعجاء هما اللغز السرمدى الأعظم الذى ذابت فى مقصد فهمه عقول الحكماء، وتناثرت مصارع الابطال فى دروب مبلغه.
ضدٌّ وضدُّ الضدِّ فى نظرات عينيها..
مكر ووداعة…
قسوة ورحمة…
ضعف وقوة…
أضداد صهرتهم عيونها فى مَعينِها السحيق لتقذف قلوب الرجال بنظرات مفخخة تُغني عن بوح الكلام الزائف الخدَّاع.
مازالت كما هي..
جميلة كما هي..
وجهها وقسماته وضَّاءة كدرر مكنونة فى أصدافها، تحيي ظلام البحر بلمعان بهى أخاذ يخطف الأعين من محاجرها ويمتص منها بريق الحياة..
ونحت جسدها هو فتنة لا ريب فيها ولا جدال..
فتنة فى جسد تلقي حبائلها الملساء المتصيدة حواليها لتُرتهن عند قدميها عقول رجال اعتدُّوا يوما برجاحتها..
وتُكتَبَل في أسرها قلوب كل من زعموا يوما ألا قلوب لهم..
مازالت كما هي..
جميلة كما هي..
بيد أن رفات جرح باقٍ لم تتملظه نار الفراق بعد فتكويه أو تطويه سدوم النسيان فتخفيه قد أنذرني، وغرس معوله فى صنم ذلك الحب الذى أزاحت رؤيتها تراب النسيان عنه..
أحببتها في الماضي ولكنها هجرتني..
مازالت كما هي..
قاسية كما هي..
هجرتني فى ابتئاس وجويً التهما قلبي الذابل الغارق فى بحر الفراق الكامد..
تركتني أتأرجح بين ليل الوحشة والأنين ونهار الأمل والتمني..
مازالت كما هي..
قاسية كما هي..
تعاقبت عليَّ سنوات تمتهن البؤس والشجى، وتلاحقت فيها أربعة فصول قُدَّت فتائلها من نسيج اليأس والقتامة..
أفبعدما كان منها يعود الحب ليستشفع غفراني بلا خجل ؟!
وماذا عن كرامتي المدنس ثوبها؟!
أترضي كرامتي الوأد تحت الرمال تلبية لنداء حنين أظنه زائفا أوحب بُني علي أنقاض التمني؟!
يصيح القلب : فلتغفر..
ومن أدراك يا قلبي أن من أغفر له يرضاني من بعد هجر؟!
وحتي وإن يرض..
كيف يعيش الحب دون أن تمازجه الكرامة؟!
فالحب تضرمه المشاعر ، ويذكي جذوته التفاهم ، وتحفظ حرارته الكرامة.
فلا تغفر ولا ترحم ولا ترضي بجيفة حبٍ ثخين القدِّ أخبثه..
ولملم كرامتك المبعثرة فى صبر وقوده الاجتواء…
ولا تنظر إليها..
فرب نظرة عابرة تتختطفك وتجتثك من قلاعك الحصينة لتطوح بك فى معبدها الملعون، حيث تذبح كرامتك الخائرة قربانا لرضاها، وفداء لروحها اللعوبة.
فأدر ظهرك يا رفيقي…
وارتحل…
وارتقب حبا جديرا…
واقتبل…