قد تبدو قصة فاطمة للوهلة الأولى من الموضوعات الاجتماعية الشائعة في حياتنا اليومية والتي قد نراها بأعيننا وربما مررنا عليها مرورا عابرا وبدون أن تستوقفنا سوى لقليل من الوقت وهنا السؤال؟ لماذا شدتنا قصة فاطمة هنا؟ وكيف استطاع الكاتب بذكاء واحترافية شديدة أن يجعلنا نعيش مع البطلة لحظة بلحظة ولا نفارقها إلا عندما قررت هي مفارقتنا في نهاية قصتها؟ بدأت الأحداث وكأننا أمام قضيبي سكة حديد لا يمكن أن يتقابلا يمثلان بوضوح حالة الصراع النفسي الذي تعاني منه البطلة ما بين واقع تحياه أجبرت عليه تحت وطأة الظروف القاسية التي مرت بها، وبين خيال تتمناه واقعا أمامها، ولا تملك منه سوى أن تتخيله في عالمها الخاص الذي لا يستطيع أحد اختراقه وكأنها تلوذ به بعيدا عن واقع لا تمتلك فيه حتى رفاهية التعبير عن آلامها النفسية والتي تحاول طوال الوقت مداراتها خوفا من أن تلمحها إحداهن فتظن بها الظنون؛ أي قهر تعيشه في تلك اللحظات؟ تسير فاطمة مجبرة على قضيب الواقع المفروض عليها ولا حيلة لها في تغيير مسارها، بينما عينها وقلبها وخيالها يرنو إلى القضيب الآخر والذي لا تملك حق السير عليه إلا في خيالها فقط، وما بين حالة الفرح ممثلا بالصوت والصورة في الأصوات العالية من زغاريد وطبول وطلق ناري يهز سكون الليل، وصورة الرقص والوجوه الغامرة بالسعادة، وكأن الكاتب أراد أن يرينا لوحة مجسمة وناطقة للفرحة الغامرة؛ لنشعر بعدها بثقل الهم الذي تقبع البطلة تحت ظلاله، لتتابع كل ذلك، ولكن من وراء ستار؛ وكأنها تشعر أنه ليس من حقها حتى أن تعيش تلك اللحظات وكأنها آنست الحزن والوحدة برع الكاتب تماما في رسم الصورة؛ لنراها وكأنها لوحة فنية مرسومة بإتقان أمام أعيننا، ننقل النظر بين مشاهدها، ونعيش كل تفاصيله، فمن بعد الستار الذي اختبأت وراءه لتتابع كل مظاهر الفرح، إلى الباب الموروب الذي انتقلت إليه لتتابع بقية المشاهد، وهي محاصرة بين النافذة والباب، تقيده أغلال من الدموع المحبوسة داخلها، نجد أن الكاتب أجاد توظيف الألفاظ؛ لخدمة فكرته وحتى نعيش مع فاطمة لحظات سجنها الأليم تمثلت براعة الكاتب أيضا في وصف تلك اللحظة البائسة؛ والتي تعيش فيها البطلة لحظة خوف من أن تلمحها إحداهن وتلاحظ حزنها وألمها؛ فهي تتفنن في مداراة ذلك؛ وكأنها تخبرنا من طرف خفي، أنه حتى التعبير عن الألم يكون أحيانا ترفا ورفاهية لا يمتلكها البعض؛ مما يعد أشد، إيلاما وقسوة للنفس البشرية وهنا تتجلى أهمية القصة القصيرة كشكل أدبي متميز ومتفرد في تصوير الصراع النفسي الناشئ بين الواقع والخيال؛ بما نراه من تكثيف في استخدام مدلولات الألفاظ المعبرة عن الحدث باستخدام عناصر القصة القصيرة وتصوير الترابط النفسي بين الشخصيات والحدث والعقدة في زمان ومكان وكل ذلك في إطار من السرد لموقف حقيقي يعترضه خيال جامح لا تحده حدود من الزمان أو المكان أو الظروف المحيطة ليخفف قليلا من وطأة الواقع المؤلم، وإذا كان العنوان هو: (أول دوال النص والبداية الحقيقية لمراحل التأويل فيه، أو هكذا يجب أن يكون، وهو أول العناصر الرئيسية للعتبات في النص الإبداعي) كما يقول شوقي بدر فإننا يمكننا القول بأن محمد عباس قد برع في اختيار عتبة قصته للدرجة التي جعلنا ننفصل عن الواقع قليلا لنعيش مع فاطمة حلمها الرائع والمشروع بينما العالم يبدو شبه كامل من حولها، تعيش فاطمة على هامش الحياة، نصف حياة تلك التي تحياها؛ فهي محاصرة في مكان ضيق، تنظر منه إلى العالم الواسع، الذي تعجز عن أن تمتلك منه شيئا، يعبر وجهها المشقوق عن هذا البؤس بشكل واضح؛ تلك الشقوق اليابس بفعل الحياة التي لا تحياها؛ مرآتها المشقوقة من المنتصف وكأن القدر يضن عليها أن ترى انعكاس وجهها كاملا في المرآة، حتى المرآة قسمت وجهها قسمين؛ وكل عين ترى قسما منفصلا عن الآخر؛ فعين ترى الظلمة في الظلم الاجتماعي الذي تغرق في تفاصيله، بينما ترى العين الأخرى الحياة التي لا تعيشها سوى في أحلامها فقط تغادر ذلك الجزء المظلم قليلا متخيلة حياتها إذا تقدم لها الشخص الذي تتمناه، حمدان الذي يشاطرها ذلك النصف المظلم من الحياة لتشابه ظروفهما، ثم تطرح فكرة مبادرتها جانبا؛ التزاما بالتقاليد المفروضة والتي لم يشفع لتجاوزها قيام السيدة خديجة بعمل مماثل عندما بادرت برغبتها في الزواج من محمد – صلى الله عليه وسلم – ويحدث فجأة ما كانت تحلم به منذ قليل وتتمناه بكل جوارحها؛ جاء يناديها، ولحظة سماع صوته ورفع الستار تضئ الغرفة وكأن روحها تتوهج وتشرق في تلك اللحظة الفاصلة في حياتها؛ إنه هو ، هو ويدور حديث قصير بينهما قصر لحظات السعادة في حياتها التعيسة، كلمات قليلة تنتشلها من قاع الحزن ووهدة القهر الذي يكتنفها؛ لتنقلها لعالم سحري من السعادة، وكأن القدر استكثر عليها تلك الفرحة؛ وكأن الظروف ترى أن الحزن يليق بها؛ عندما اقتحمت النساء الغرفة؛ ليسرقن منها حلمها في لحظة؛ ومع ذلك تتوجه ثانية إلى النافذة؛ باحثة عن حلمها وكأنه القشة التي تتعلق بها؛ لتمنحها طوق النجاة من غرقها في قاع الحزن، وكأن الكاتب يؤيدها في تصميمها على البحث عن حلمها المشروع مهما كانت الظروف تحية لكاتبنا الأديب القاص / محمد عباس الذي استطاع تحقيق عناصر القصة القصيرة بجدارة من خلال تكثيف الأحداث التي تصور لنا الصراع النفسي الذي يموج بصدر البطلة، التي تمثل بالفعل شريحة لا يمكن الاستهانة بها من مجتمع الفتيات في بلادنا وخاصة في المجتمعات الريفية والتي تكبل فيها المرأة بأحمال ينوء بها الرجال، ثم تصويره الرائع للحلم الذي تصر فاطمة على أن تعيشه مهما كانت ظروفها
بقلم: رجاء حسين