– إذا كان من الحق ألا يُمنَع صاحب الحق عن حقِّه، فمن الحق ألا يُعطى هذا الحق لمن لا يستحقه، ومن الحكمة والعقل والأدب في الرجل ؛ ألا يعترض على ما ليس له أهلاً، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كُفؤًا. “الشافعي”
– هاته العبارات المسهومة! تنصر الحق بمحقوقيه وتُبغض الباطل بمتبعيه! فهمهمة البعض و- بعض البعض – ممن ارتأوا في أنفسهم رجاحة العقل وجودة اللفظ وفطنة الكَلِم ليست بمعيارية لخوض حروب النقد، دأبهم دأب مغازلة العقول المثلومة بشفيف الحماسة! بيد أن الانقضاض على ذوي الأهلية النقدية وحاضني الأدب من المهد هدفًا مكلومًا لهم!
– اتقاد الشغف بالتهليل وشكيمة النفس للنفس وجرأة الإقدام، تدفع مَن لا باع له لتصدُّر المقام، ومن الأوْلَى لهم ترْك الفرس لفارسها، والسهم لباريها، والتولي عن الزحف على مَن لا قِبَل له بهم.
– نقحت العنوان باستخدام اصطلاح”فن” وليس “علم”! لتبيان الفرق بين الفنون والعلوم؛ بيد أن المفارقة ستضعنا على أول عتبات الإشكالية.
– الإشكالية في مهدها
– ما هو الفن؟
هو الحال أو الضَّرْبُ من الشيء، بمجاهرة التطبيقُ العمليُّ للنَّظريات العلميٌة بالوسائل التي تحقِّقها.
فالتعريف الفلسفي للفن: هو العمل الذي يتميّز بالصّنعة والمهارة، مكترثًا تحقيقه بالوسيلتين “الوجدان والحدس”!
أمّا العلم فهو: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ويمثل اليقين والحكم الجازم غير القابل للتشكيك.
فالتعريف الفلسفي للعلم هو: الإدراك التصديقي مكترثًا تحقيقه بالوسيلتين “الملكة والعقل”.
من “معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري”
تبيان التعريفات الأكاديمية أعلاه يجيء بغية ثبوتية نسب النقد! لعائلة الفنون دونًا عن دعوى العلوم! والمضاربة النسَبية تتأتى من خلال هذا البرهان.
“فقد تختلف آراء النقاد في عمل واحد لاسيما يتضح أن العلم بقواعده لا اختلاف في تأويلاته! ريثما قيل بأنه الاعتقاد الجازم غير القابل للتشكيك! ومن ثم ففوارق النقاد في آرائهم تُرجح كفة نسب الفنون عن دونها!
وطالما ارتبط الفن بالحدس والوجدان؛ وجب علينا توضيح معايير فن النقد ومن ثم آدابه!
النقد هو: وسيلة لإدراك غاية، فليس من مقاصد النقاد الخوض في أعراض الناس؛ لذا التزموا الاعتدال في بيان الأحوال، والوزن بالقسط في إصدار الأحكام، وكانت لهم قواعد عامة في نقد القائل، وقواعد في نقد القول، يراعى فيها التفريق بين الرأي وصاحبه!
– الإشكالية تتعاظم.
من لا يتقبل النقد فهو يخفي شيئًا.
“هلموت شميت”
وهنا تُقدد جُمرة الإشكالية! ويتجلى الفرق بين من يعي ويفهم أصول فن النقد وبين من يتملق لدوافع مبطونة أو لشرور مكنونة! فليس كل نقدٍ مقبول وليس كل ناقدِ بناقد!
– النقد صناعة حرفية مهنية فنية!
فقد بذا الصنيع يدرَؤون عن الأدب الدَّخَن، ويذبُّون عن الفنون الدخل، فتخرج مصنَّفاتهم وأعمالهم فنًّا حِيك بأيدي صاغة مَهَرة، عليه ختْم النقد، ودلائل الجودة و الحسن.
فقد اتصف عظماء النقد باختلاف دروبهم ومسالكهم أمثال العقاد وطه حسين ولويس عوض، بتقعيد قواعد الجرح والتعديل، وهاته القواعد كان يلتزمها مَن ينتقد غيره ويصل في مقام نقده للفكرة أو المقالة إلى نقد القائل، فبعض المسائل النقدية في الأدب، لا تُلزم الراد أو المجادل التطرُّق لحال خَصمه أو محاوره، وبعضها يُقر على المنتقد الكلام عن صاحب المقالة وبيان حاله، أهو من أهل العلم؟ أم من الدُّخلاء من أصحاب البدع؟
– فمن البلاء نقد الجهلة للعلماء، ومناطحة الأصاغر للأكابر، فالواجب على مَن لا يعلم، أن يسأل ويتفهَّم، لا أن يعترض وينتقد!! فالجاهل بالشيء ليس كفؤًا للعالِم به، ومَن لا يعلم لا يجوز له جدال من يعلم.
– هناك فرق بين النقد والحقد، وبين النصيحة والفضيحة، وبين التوجيه والوصاية، حياة الناس لم تدون باسمك لتخبرهم كيف يعيشون. “د/مصطفى محمود”
ثمة ملعقة تزور أفواه النقاد بالسم الزعاف! للوقوف على آليات النقد الصحيحة، يسلم منها من يتبع هاته القواعد و يعتل بها من يعارض و يناهض فيصبح مصيره كحال الدخلاء بمقارعتهم نهرًا و بطشًا!
– إن المراجعات التي تملأ الصفحات لا علاقة لها بالنقد! و جرمًا أدبيًا أن تُصنف من فنون النقد!
فالمراجعة هي نظرة القارئ العادي أو/و المخضرم الذي يمر بالنصوص البلاغية مرور الكرام دون أن تستوقفه جمال الكلمة أو عمق المفهوم! وبطبيعة الحال سيعبر فوق جثث الكوارث البلاغية دون أن يتحسس ألم الحروف.
القارئ يقدم رؤيته التابعة لحالته المزاجية المصحوبة لقراءة العمل! فربما قد دبت للتو معركة طاحنة بينه وبين زوجته فتعكر مزاجه! فرأى العمل قاتمًا لأنه لم يدغدغ أحاسيسه ولم يغير مزاجيته! فيخرج لنا بقراءة تحليلة ظالمة للعمل وقاتلة لبواطنه الفلسفية أو الموعظية.
– أما الناقد فهو يدرس العمل من المنظور الأدبي بمعايير أدبية جمة! يسترق الطعن من ثنايا الحروف وتستمطره المتعة الحسية التذوقية من عبارات بالكاد تكون مقروءة بنهم صعوبتها وجل معانيها؛ ويسلط الضوء على المبهر فيها ويكبح جماح الخبيث والركيك منها!
– الإشكالية تنفجر.
– وعلى المستوى الشخصي تُقابلني دومًا هجمات البعض ممن لايمتلكون “ماكينة الهضم الحسي التذوقي”! فعدم قدرتهم على استساغة النصوص بضخامة عبارتها تولد عندهم ثورة مضادة تخول لهم الهجوم للإقتناص من النص أو صاحبه! وعادة ما يعتمد صاحب الهجوم على برهنة عدم استساغته بعظيم اطلاعاته أو تراص المجلدات بجوار بعضها البعض!
– الإشكالية تتلاشى!
النقد كالفكر، أو هو فكر لا يتغذّى وينمو إلا بالتساؤل المستمر، وهو لذلك يضع نفسه، لا الأشياء والنصوص وحدها، موضع تساؤل دائم، وإعادة نظر مستمرة؛ إنه نقيض المنهج المغلق، وهو لذلك بدءٌ يظل بدءاً. – أدونيس