المثالية بين الادعاء والتنظير!
منذ فترة وجيزة نشأت حالة نفور من بعض رواد مواقع التواصل تجاه البعض الآخر، وكانت حجتهم “أنهم مُدعي المثالية”، وعلى النقيض، ظهرت مجموعةٌ تُفاخِر الناس بسوئها!، وكان شعارهم “ضد مثاليتهم العَفنة”، فما هي المثالية وما كُنهها حتى تُهاجَم بتلك القوة؟! فُسرَت المثالية بأكثر من تفسير، ولكن أشمل ما وجدته كان في معجم الغني: “المِثَالِية فِي الفَلْسَفَةِ هي مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يَجْعَلُ الفِكْرَ خَاضِعاً لِتَصَوُّرٍ ذِهْنِيٍّ وَحَقِيقَةٍ عُلْيَا فَوْقَ كُلِّ مَا هُوَ مَوْضُوعِيٌّ وَمَادِّيٌّ. أما فِي الفَنِّ وَالأَدَبِ فهي تُمثِل الأَشْيَاءِ والنَمَاذِجَ التي تَرْمُزُ إِلَى قُوَّةِ جَوْهَرِهَا فِي الأَخْلاَقِ، والدَّعْوَةُ إِلَى الكَمَالِ الإِنْسَانِيِّ وَجَعْلِ الإِنْسَانِ غَايَةً أَخْلاَقِيَّةً نَمُوذَجِيَّةً.”
قبالة مطالعتي لذلك التعريف، تكونت في ذهني صورة إجلال لهؤلاء المنتسبين للمثالية!، ولكن صفعتني يد الحيرة بسؤالٍ مُريب!، أمعقول أن يصل الإنسان لدرجة الملائكية؟!، حتى أنه لا تصل إليه ذرات الغَبَر!. لعَمري إنه لأمرٍ جَلِل! تفاقمت الإشكالية وما زادها سوءًا؛ هو ما منت عليّ به رأسي؛ من تذاكرٍ لهؤلاء المتفاخرين بسوءهم!، لقد بات البشر غريبي الأطوار، لطالما اعتدنا على المفاخرة بطيبةٍ أو حُسن خلق، أما المفاخرة بسوء فهو أمرٌ عجيب، وهنا يراودني سؤال، إلى ماذا يرنو هؤلاء؟ “الغاية تُبرر الوسيلة”، عبارة كتبها ميكافيلي ليسير على إثرها فيما بعد الكثيرون، إن من طبيعة البشر وفطرتهم محبة الظهور، وما يقتل الإنسان حقًا شعوره بالتهميش، أرى الآن الكثير من الإبهام قد انقشع، وبدأت غاية هؤلاء المفاخرين تتجلى أمامي، ووسيلتهم مُبررة كما ظنّ ميكافيلي! التعميم؛ ذاك المبدأ الظالم، لربما أخطأنا في إصدار الحكم، وإلصاقه بالجميع دُفعةٌ واحدة!، فلعل أحدهم كان يخشى النفاق، والذي هو من علاماته إظهار عكس المُبطَن، مرةً أخرى تشتبك خيوط الإشكالية من جديد، ويختلط علينا مَن المُخطئ ومَن المُصيب؟ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل أمتي معافى إلا المجاهرين » [رواه البخاري ومسلم]، ويُقصَد المُجاهرين بالمعاصي، وبين جلَّ وعلا أنه لا يحب الجهر بالسوء { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم } [النساء:148]، وتلك البراهين جعلت نصف الإشكالية موضع الحل. لا معصوم من السوء سواه “صلوات ربي وسلامه عليه”، أما باقي البشر فلا تخلو أنفسهم من السوء، وإن كانت بضع ذرات. لذلك فإن مُدعي المثالية هم بعض المنافقين؛ بإظهارهم عكس ما تبطنه أنفسهم، والبعض قد يُعزي هذا لخوفهم من التهميش، والغاية تُبرر الوسيلة! إن تعريف المثالية في معجم الغني، يجعلنا نتوق إليها، ونحاول أن نصل لها –وإن كان مستحيلًا–، وهذا الأمر لا يأتي بالادعاء، ولكن بالترغيب والتحبيب، وإن كان ادعاء السوء فُحشًا، فادعاء التهذيب ليس بأقل خطرًا، فإنه قد بُني على باطل، ومصيره سيكون الهاوية، ولا ندري حينها مَن سيكون واقفًا! الآن وقد تجلى كل شيء، بدا رواد مواقع التواصل أمامي، وبدت رأس الإشكالية بالتحديد، لقد أسهم ذلك العالم الافتراضي في الكثير من منغصات حيواتنا، فبه أصبحت الانعكاسات الضوئية الصادرة عن أجهزة جامدة، هي ما توجهنا، وتُشعِل بيننا الحروب، وقد تناسينا تجاعيد بعض الوجوه! ألا فانتبهوا.