هاروكي موراكامي .. الحياة هي الدفة التي نملك إدارتها.
في يوم مشمس وظهيرة رائقة بفعل البيرة الباردة والمنحدر العشبي بديل المدرجات أو سابقهُ في ذاك العام, ومبارة لكرة البيسبول وفريق مغمور يلاحق الشاب صاحب التسعة وعشرين عاماً بعينيه لوحة نقاطه. كان العام 1979م وموراكامي الشاب صاحب مطعم الجاز الصغير بحي من أحياء طوكيو يستمتع بالهدوء المقدم له بعد العناء اليومي وإرهاق الروتين الذي حرص على جعله مميزاً. تطير كرةُ بجواره ويتردد دوي المضرب في أذنه متبوعاً بالتصفيق النابع من إعجاب الجمهور الشحيح بما قُدم لهم من لَعِب في تلك الجولة.
جاءت تلك اللحظةُ من عدم. “أظن أنه باستطاعتي تأليف رواية!”
ولد هاروكي موراكامي في العام 1949م وهو الكاتب الأكثر شعبية في اليابان في هذه الأثناء ومنذ زمن ليس ببعيد منذ انطلاق مسيرته الأدبية وخصوصاً بعد رائعته الغابة النروجية عام 1987م في منطقة كيوتو. درس الدراما في طوكيو والتقى بيوكو والتي ستعرف فيما بعد بالسيدة يوكو موراكامي.
لم يكن هاروكي شاباً تقليدياً بالمعنى الياباني, تزوج أثناء دراسته أي قبل حصوله على عمل مخالفاً الدائرة العتيقة لكيفية سير الحياة في المجتمع الذي أحاطه. لم يحصل على وظيفة بل أنشأ تجارته الخاصة ليعيش روتينه المحبب إلى قلبه في قضاء الوقت قرب موسيقاه المحببة من نمط الجاز بين شرائط مايلز ديفيس وديوك إلينغتون, بل والموسيقى الكلاسيكية التي يعشق تفاصيلها من موزارت إلى شوبان وهايدن إلى بيتهوفن, كما نرى تأثره بالثقافة الغربية وكل ما سبق سنراه منعكساً في أدبه وهذا مما يميزه.
“أظن أنه باستطاعتي تأليف رواية!”
يستقل الشاب الذي لم يحب الأدب الياباني هرباً من ثقافة والده أستاذ الأدب ليتجنب كثرة الحوارات معه, فلم ينغمس إلى في الأدب الغربي والروايات الروسية والأمريكية, يأخذ رزمة أوراق وقلم حبر إنه العام 1979 لا توجد حاسبات للكتابة بعد وينحني فوق طاولة المطبخ ليكتب عمله الأول “أسمع الريح تغني” ويستغرق فيها شهوراً متحدياً نفسه في إظهار ما تجلى له في ظهيرة أبريل من هذا العام الفاصل في حياته.
يميز موراكامي أسلوبه البسيط الذي يستخدمه ليحكي به الكثير, فهو صاحب موهبة فريدة في حكي العادي بلذة لا تجدها إلا في أوراقه وشخصيات بل وعوالمه العجيبة. هاروكي حينما كتب المسودة الأولى شعر بالملل ليترك الخيبة تنسل من بين أحرف ويطردها بعيداً مع رزمة الورق مستغرقاً في تفكيره تحت إضاءة المطبخ التي تشبه انحناءة ظهره على الطاولة. أدرك افتقاره للأسلوب ليخطره له خاطر عجيب, يخرج آلته الطابعة من ماركة أوليفيتي ويبدأ بالكتابة باللغة الإنجليزي محاولاً قدر الإمكان تفادي تكوين الجمل الركيك ومستفيداً من محدودية مصطلحاته الإنجليزية ليرمي بكلماته المطلوبة دون إطناب كما فعلت من بعد أغوتا كريستوف في ثلاثية الدفتر الكبير العظيمة والملهمة مع اللغة الفرنسية.
بعد أن اكتشف أن البساطة وهي سمة تظهر في أغلب العالم الموراكامي لها إيقاعها الساحر, أخرج فصله المعدل المكتوب بلغة أجنبية ليحاكي ما كتبه بيابانية بسيطة كأن تشرح بيتاً من المعلقات بأسلوب أدبي بسيط يسطر اللب الذي يحمل جمالاً مماثلاً وربما يفوق جمال بعض التفخيمات التي لا تسمن المعنى ولا تغذيه.
بعدما أنهى روايته الأولى يرسلها إلى دار نشر وينسى أمر الكتابة حتى تدخل قوائم قصيرة لجائزة فاز بها بعد شهور نسي فيها أمر الرواية, ليعود إلى طاولة المطبخ قبل أن يبيع المقهى لرغبته في العمل ككاتب بعد أن يتشجع من نجاح الجزء المكمل لأسمع الريح تغني بعنوان : الكرة والدبابيس 1973 والتي نشرت كتكملة لروايته الأولى, ومن هنا بدأت العجائب.
في كل رواية لموركامي تراه في داخلها فهو محب للقراءة كأبطاله, وتستمع بحديثهم عن موسيقاه المفضلة والتي تنتشر في صفحات رواياته وفي آذان شخصياتهم. ترى العالم الواقعي الذي يسجله بأسلوب لذيذ ينشق من داخله فانتازيا وعجائب قد ينزعج البعض من غموضها, كلماذا تمطر السماء علقاً في رائعته كافكا على الشاطئ ولما هناك من يتحدث للقطط , لماذا هنالك جسد تمصته الشاشة المضيئة في الغرفة كما في ما بعد الظلام؟ وهناك الكثير في تلك المخيلة.
ترى واتانابي يدرس الدراما ويومياته مع الجبل السحري لتوماس مان كأننا نتحدث عن موراكامي الجامعي, أو كهاجيمي في جنوب الحدود غرب المش الذي يقترب عيد ميلاده من ميلاد هاروكي نفسه والذي يؤسس لنفسه مطعماً تعزف فيه موسيقى الجاز كشباب هاروكي بعدما تخرج.
كتب موراكامي ما يزيد عن خمسة عشر عملاً من أبرزهم الغابة النرويجية والتي تناقش قضايا كالانتحار والحب والجنس كما هي سمة أعمال هاروكي وهي أكثر أعماله قرباً للقراء نظراً لواقعيتها الملموسة وبساطة وتميز الأسلوب كما أن المعنى المحمول بداخل كل أعماله يكشف عن نفسه أحياناً وتجتهد في فهمه أحياناً أخرى, وهناك كافكا على الشاطئ روايته التي لا تقل شهرة نظراً للواقعية السحرية التي انتهجتها الرواية وامتلائها بالفانتازيا والتي لم يستسغها البعض وأغرم بها الكثير منهم كاتب هذه الأحرف. هناك رقص رقص رقص وسبوتنيك الحبيبة, ما بعد الظلام وجنوب الحدود غرب الشمس وغيرهم الكثير من الأعمال التي تتنوع بين الواقعية والخيال في مزيج يحاول فيه كتابة نفسه والكثير ممن يشبهه.
ومن السمات التي تظهر حبه للموسيقى هي استعارة عناوين بعض الأغاني كعناوين رواياته كالغابة النرويجية للبيتلز أو جنوب الحدود والتي تنوع مغنوها كسيناترا وما بعد الظلام من مقطوعة خمس دقائق بعد الظلام.
الحياة هي ما تملكه الآن : ربما لم يكن خافياً على البعض هذا المعنى في كلمات موركامي وربما لم يستخرجه البعض ربما لم يكن ذلك ما يقصده, فالكاتب صاحب السبعين عاماً لا يجري المقابلات بل يتركنا لنتعرف عليه من صفحاته, يكتب للوحدة والغربة يكتب للحياة والبحث المضني عن المعنى الذي يدفع الجميع للتخلي عن استنشاق ثاني أكسيد الكربون أو التعلق بحبل غليظ يسحب أرواحاً ضائعة حالها كحال الموسيقى التي لا يستمع إليها الكثيرون, يكتب عن الهجران عن السفر وعن الحب, عن القطط لحبه الشديد لها وعن اليومي والمعاش, عن الطعام وأسعاره في تلك اللحظات وعن اللذة التي تتضاعف حينما نراها في أوجه أبطاله في مسراتهم وعن الأوجاع وضرورة أن نمر بها كما يقول واتانابي في الغابة النروجية. في روايات موراكامي تشعر بأنك غيمة تزداد ثقلاً بمرور الصفحات لتود الإمطار في نهايتها وتتخلص من ثقل الحياة مدركاً جوهراً ما لا يشترط أن يكون محسوساً بالضرورة ربما هادئاً ولكنه عميق المنفذ. وربما يصادف الحظ أن أكون مستمتعاً بثلاثية الأرشيدوق التي يعزفها ثلاثي المليون دولار وهو يفعل ذلك في هذه اللحظة. حتى يستمر بالتجلي الغامض الذي يدفعه للكتابة ويدفعنا للإستمتاع بإبداعاته التي يتوقع لها أن تفوز بجائزة نوبل مؤخراً.