يا أبتي اقصص علي:
والليل في عرف الزمن هو ذلك السواد المتسلل إلى الكون حين يخفت ضوء النهار، وتعلن شمس البوادي الرحيل إلى دارها حيث السكون في خدر البيات.
وفي عرفه، كان الليل عمرًا سرمديًا حين أوصدت الحياة بوجه قلبه أبواب السعادة، وضنت عليه بدوام البقاء ليصبح سجين روحها العاشقة لكل شيء، توشح بحُلل الجمال إلى أن أصبحت هي والجمال ” الجمال ذاته “، حتى بعد رحيلها ظل الحزن مؤنسه الجميل، ولِمَ لا وهو يحمل بين خيوطه السوداء نور وجهها؟! فيستنير به إشراقا وبهجة ليتمكن منه تمكن الشجرة العتيقة من ثبوتها بالأرض إذا ما هبت في وجهها الرياح العاتية تروم اقتلاعها، فهل تراها تقتلع؟!
شعورٌ قاسٍ، لم يكن يتخيل أنه سيأتي اليوم الذي يكابده فيه وحده بعدما رحلت عنه ذات الوجه الصبوح كما كان يناديها، لتتركه وابنتهما يقتاتان معيتها السالفة معهما من أطباق الأمس القريب المتراصة على موائد الذكريات.
في ليلة ساجية ببدايات فصل الشتاء، حيث يتوسط القمر أديم السماء وما زالت نسمات الهواء الباردة تتوالد فيما بين السماء والأرض، والتي لها مذاقٌ خاص لدى الروح المشتاقة إلى هذا الهدوء الذي يعقب هشاوش الخريف بأصوات أوراقه الجافة المتساقطة تملأ الربوع.
عمد حامد إلى كرسيه الهزاز الذي طالما كانت وضعيته في مقابل كرسيها، فيجلسان إلى وقت متأخر من الليل – وهي تحمل بين ذراعيها صغيرتهما التى تأبى النوم إلا في أحضانها، وكأنها قد خبرت بدنو الأجل، فأرادت أن تتشبع من حنوها قدر ما استطاعت، وليتها تشبعت – يتسامران فلا يدريان أَيُذهِبُ البردَ دفءُ حديثهما، أم دفء الحطب المشتعل بداخل المدفأة التي يجلسان قبالتها، أم كلاهما امتزجا معا لتتجلى فيوضات ذاك الدفء حبا وشغفا تمطره العيون بنظراتهما المتبادلة؟
جلس على الكرسي خاصته مسندا ظهرَه إلى ظهرِه، وبدأ بممارسة طقوسهما السالفة معا، أحضر فنجانين من القهوة، ووضعهما على المنضدة الصغيرة التي تتوسط الكرسيين، ثم ألقى بعضا من الحطب؛ ليشعل بها النار التي لم تعد مبعثا للدفء كما السابق، بل باتت علما متوهجا يلوح بالألم فوق أروقة قلبه، فيتقافز النبض له؛ تعظيما وإجلالا ويكأنه قد استعذب إحساسه به من بعدها، ملقيا برأسه إلى الخلف على حافة الكرسي العلوية من خلف الظهر، يتمتم ببعض كلمات غير مفهومة كأنه يهذي من حمى أصابته، بيد أنها لم تكن تلك التي تصيب الأبدان، بل كانت حمى الفقد التي تصيب الأرواح، فظل يهذي ويهذي بصوت خفيض، إلى أن تمكنت من قلبه بشدة حتى علا صوته بصورة تكاد تصم الآذان من حوله، ولكن ليت هناك آذان تسمع؛ فتهرول إليه لتخفف عنه وطأة حمومه، ينادي عليها، يسائلها:
– أيناك يا حبيبة؟!
أشتاقكِ… أشتاق إلى أحاديثك وضحكاتك… عصبيتك وغضبك، أشتاق إليهم جميعا… أشتاق إليكِ… هذه قهوتك أعددتها لك كما كنت تتمنين أن أعدها لك ولو لمرة واحدة، ها هي كل يوم أعدها لك وانتظرتك طويلا وأنا أحمل الصغيرة بين ذراعيّ، حتى تأتي وتحملينها عني، نامت الليلة بعدما انفطرت بكاء ونداء عليك، ما عدت أقوى على تحمل بكائها وصرخاتها تستجدي عودتك، حتى ما اتفقنا على فعله معها قبل رحيلك لم يكتب له القدر الاستمرار و…
قطع صراخاته المنحورة صوت طفلته “جنة ” تعدو نحوه مسرعة، خائفة، تحمل دميتها بين ذراعيها، تحتضنها بقوة وجفون عينيها قد غممها الدمع حتى امتلأت عن آخرها، ففاضتت زخات، زخات على وجنتيها الورديتين، ارتمت بين ذراعيه وجسدها الصغير ينتفض خوفا وذعرا، حملها على فخذه مدنيًا إياها من وجهه؛ يشتم ريح خصلاتها، ويقبلها بحنو وشفقة على ما أصابها إثر وفاة والدتها.
اجتهد في تطييب خاطرها واحجام بكائها، لكن لا جدوى من سكون صياحها الذي يطالبه بأن يقص عليها حكاية من حكايا أمها التي كانت تقصها عليها قبل النوم شريطة أن يحكي لها بصوت أمها، حاول إقناعها بأن أحباله الصوتية أصابها المرض، ولا يستطيع أن يحاكي صوت أمها، فلم تعبأ لتبريره، وعلا نحيبها أكثر وأكثر، وازدادت حشرجة صوتها، فحملها بين ذراعيه إلى حديقة المنزل؛ ليلهيها عن حزنها، طاف بها عدة أشواط حول حوض الورد الذي كانت ترعاه زوجته ( حنان )، وتقضي معه جزءًا يسيرًا من الوقت تغازل وريقات وروده، تتأملها بعمق، تعيش معها في عالم وردي مغاير للواقع الذي تعج طرقاته بضجيج الأرق والتعب، وسواد يغشاه من كل جانب، كانت مدركة لطبيعة الحياة بحقيقتها المجردة، وأن أجمل ما فيها ابتسامة نابعة من القلب ترسمها على ثغرها، تهديها زهورها كل صباح مفعم بالرضا والطمأنينة.
أثقل نسام الليل أهداب الصغيرة، فأغلقتهما على حين خلسة من صراخها، وغفت راحلة بدموعها إلى عالم من الأحلام التي يرجو لها أبوها أن تكون سعيدة، عرج إلى البيت ثانية، وحملها إلى غرفتها؛ ليسكنها مخدعها في هدوء وسكينة.
عاد إلى وضعية جلسته السابقة، بيد أن هذه المرة شرد بتفكيره العاجز تجاه ابنته التي لايدري كيف يجيب طلبها في أن يقص عليها حكايات أمها التي كانت تحكيها لها قبل النوم بنفس نبرة صوتها؟
استنفد كل الحجج التي يمكن أن يبرر بها لصغيرته سبب انقطاعه عن الحكي بنفس الطريقة، ونفس النبرة.
مر أسبوع على انقطاعه عن الحكي، ولا جدوى من نسيانها، ما زالت تسأله طيلة الوقت، وتترجاه أن يعيد على مسامعها الحكايات،
شعور بالتيه تملك كل كيانه، لوم وعتاب قد استبدا بعقله؛ ليوجهاه إلى طيف زوجته الماثل أمامه على الكرسي المقابل، ينظر إليها، فيرى اصفرار وجهها، وشحوب ابتسامتها، نحول جسدها والضعف الذي اعترى كيانها وهي لم تزل في ريعان شبابها، يسمع صوت تألمها يكاد يثقب أذنيه، ينهال عليها موبخا:
– حبيبتي، كنت أراك تذبلين يوما بعد يوم، وترجعين ذلك بأنك مرهقة من طول السهر مع صغيرتنا التي كنا نسميها بالكائن الليلي المستيقظ طوال الليل، ثم ينام بالنهار، ها هي حبيبتي بعد فراقك لم تعد تنام، لا بالليل ولا بالنهار، بكاؤها دائم يفتت كبدي عليها، لم تعد الدمى تلهيها، ولا النزهات تشغلها كما السابق، فقط صوت حكاياتك هو ما كان يهدهدها، أما الآن فلا شيء قادر على أن ينسيها أنتِ.
فماذا لو يا عزيزتي، كنتِ واليت صحتكِ بعض الاهتمام واكتشفنا اصابتك بذاك المرض اللعين باكرا؟
أَوَما كنا نستحق منك بعض الاهتمام بصحتك لأجلنا؟ لربما كانت الأقدار قد تغيرت، وشفيتِ، وأكملنا الحياة سويا!
لِمَ يا زوجتي؟! لمَ يا حنان؟! لمَ لَمْ تصارعي المرض لأجلنا؟! لِمَ استسلمت له بكل هذه السهولة؟! لِمَ يا حبيبتي تركتِ هذا الحمل الثقيل على عاتقي وفررت وحدك؟ أما كان الأجدر بك أن تصطحبينا معك؟!
أما تعاهدنا على البقاء سويا؟!
لِمَ أخلفتِ العهد؟ لِمَ؟!
شعر بشيء يحكه بأسفل قدمه، فإذ به ( ميسو ) قطها الأليف التي كانت ترعاه، والذي كان متعلقا بها وكأنها أمه، لَكَمْ تأثر بغيابها، وحزن عليها كثيرا بعد موتها!
نظر إليه حامد في غيظ وحنق، كاد أن يركله بقدمه بعيدًا بعيدا، فهو السبب فيما آلت إليه حالة الصغيرة، هو الذي حرمها من صوت أمها الذي أصرت تسجيله قبل موتها بأيام؛ حتى يتسنى لصغيرتها سماعه كل ليلة قبيل النوم، تحاملت على مرضها، وألحت على زوجها بأن يساعدها في فعل ذلك، فكانت كلما أتاها بالمشفى تقضي الوقت المخصص للزيارة في تسجيل القصص بصوتها على هاتفه النقال، واتفقا على أن يخفيا الأمر، وأن يقوم (حامد ) بتشغيل التسجيل كل ليلة سرا، ويظهر أمام جنة وكأنه هو الذي يحكي بلسانه مقلدا صوت أمها.
لكن القط ( ميسو ) رآه ذات مرة وهو مختليًا بنفسه يسمع القصص على هاتفه، وما لبث أن أتته جنة حتى أغلق الهاتف ملقيا به فوق ظهر المنضدة، فأسرع نحوها، وتسلقها، وظل يضرب على الهاتف بقدمه، أسقطه أرضا، فتهشم وتحول إلى قطع متناثرة وهو يلعقها بلسانه، ومواءاته تعلو وتعلو، ودموعه تتساقط شوقا وحزنا!
جرى حامد مسرعا بعدما تناهى إلى مسامعه صوت ميسو، انكب على فتات هاتفه؛ يجمعه من على الأرضية وهو يصرخ، لا يدري ماذا يفعل؟ وقد ضاع منه الشيء الوحيد الذي كان يهدهد به صغيرته، وفر ميسو خارجا.
تذكر حامد دموع ميسو، فلم يَقْوَ على نهره وركله، حمله بين ذراعيه واحتضنه بقوة وهو يقول:
– حتى الحيوانات تشتاق إليكِ، وتبكي حزنا عليك، فما بالك بي يا حبيبتي! فما بالك بزوج اختارك من بين النساء لتكوني حوراءه دنياه وآخراه!
يارب، رفقا بي، تكاد حبال الصبر ترتخي من حول قلبي لتتركه غارقا في بحر الخيبات تلاطمه أمواج القنوط، رحماك يارب… رحماك.
كانت ليلة عصيبة، توافدت عليه الأحزان تترا، بيد أنها لم ترحل، بل استقرت، واتخذت من جنبات روحه موطنا، لكن سهام دعائه ( رحماك يارب رحماك ) لم تخب، بل أتت بشائر الرحمة يحملها أذان الفجر يشق صفوف حنادس الأحزان بسنا كلماته الباعثة على الأمل:
( حي على الصلاة…حي على الفلاح )
يهرول إلى بيت ربه؛ ملبيا حامدا له، شاكرا إياه على ضرائه وسرائه، ثم يعاود بيته متوجها إلى غرفة ابنته يتدثر بلحافها، وينام بجوارها محتضنا إياها حتى دنت شمس الصباح من النوافذ تطرق بأشعتها عليها، تستأذن الدخول، تصحو الصغيرة، فتجده بجوارها، تبكي مجددا قائلة:
– يا أبتِ اقصص علي بصوت أمي.
فيجيبها:
– لا أستطيع أن أقص عليك، أَمَا أخبرتك أن أحبالي الصوتية متعبة؟ لقد حزنت مني، وأصابها الإعياء؛ لأني حاولت تغييرها إلى صوت أنثوي، والطبيب نصحني ألا أعاود الكلام بنبرة غير نبرتي، وإلا سأفقد صوتي نهائيا، أيرضيكِ أن يفقد أبوك صوته؟!
ولج ميسو في تلك اللحظة إلى الغرفة، فأومأ له حامد برأسه؛ ليدنو منه، قفز مسرعا إليه فوق السرير يداعبه هو وجنة، إلا أنه لم يعد قادرا على إدخال البهجة والسرور عليها، فحمله بين ذراعيه مكملا حديثه لجنة ممازحا إياها:
– تخيلي صغيرتي لو حاولت أن أحكي لكِ بصوت مواء ميسو، ماذا سيحدث لأبيكِ؟
انفرجت أساريرها، وضحكت، ثم تعلقت برقبته وهي تقول:
– لا… لا… لا أريد أن تتحول إلى قط يا أبي، ومن ثم تفقد صوتك الآدمي.
رد عليها متصنعا الخوف والحزن، وهو يقول:
– بل دعيني أجرب صوت ميسو، دعيني، دعيني…
رددت بسرعة واضعة أصابع يدها الغضة على فم أبيها:
– لا… لا… لا تجرب ذلك، أرجوك، يكفي أن رحلت أمي، ورحل صوتها، أخاف أن يرحل صوتك ويأخذك معه، أرجوك يا أبي، أرجوك لا تغير صوتك مجددا.
– حسنا، حسنا، لن أغيره، وأعدك أن أقص عليك الليلة قصة الأميرة النائمة بصوتي الرخيم هذا، وما عليكِ إلا أن تتحملي وقعه على أذنيك الصغيرتين، ولكن سأشترط عليك شرطا وتعدينني به.
– ما هو الشرط يا سيادة الوالد القاصّ؟
– ألا تبكي مجددا، بكاؤك هذا يحزنني، فأنسى كل الحكايا، ولا أستطيع أن أحكي شيئا.
– أعدك، لن أبكي… لكن أمي… أشتاق إلى أمي، وأناديها كما كنت أناديها، بيد أن هذه المرة لم تعد تجيب نداءاتي، فأستوحش أيامي بدونها، فأبكي.
– ادعِ الله أن يجمعنا بها في الجنة، ولا نتفرق قط أبدا.
رفعت كفيها الصغيرتين، ودعت بصوتها الطفولي الذي خالط براءته الشجن:
– يارب، خذني إلى أمي عندك، واجعلها تقص علي الحكايات، ولا نفترق بعد ذلك أبدا.
تمت