تساقط رذاذ المطر خفيفاً في ذاك الصباح الشتوي البارد .. برودة تبعث في الأوصال رغبة مشتعلة في الدفء والاحتواء والونس. استند على ظهر مقعده مراقباً الأمطار التي يراها بالكاد من خلف زجاج غرفته .. التصقت يداه بفنجان قهوته فسرى بجسده لهيبها المؤقت محدثاً أثرا مؤقتاً من الراحة والدفء الحبيب .. حانت منه التفاتة لهاتفه المغلق منذ أيام بعد قراره المفاجئ بالهروب والابتعاد عن كل شيئ .. ارتشف رشفته الأولى من قهوته التي سارعت ببعث الجنون في جنبات قلبه وروحه المتعبة .. شعور بالدفء الذي يبحث عنه يعقبه شعور بالحنين تجاه من كانت تبعث في القلب ما يماثل هذا الشعور المريح الدافئ.
حدث نفسه وهو يكمل احتساء القهوة والحنين دفعة واحدة قائلاً: “حسناً إنها رحلت لكن قهوتي قد بقيت .. تعوضني عن رحيلها والابتعاد…
أعلم اني انا من رحلت ودفعتها لالتقاط بقايا كرامتها والابتعاد هي الأخرى، لكنني بخير وفي حال أفضل بدون شريك يشاركني الحياة ويناطحني الرأي ويراجعني في قرارات حياتي وأنا رجل، فطرت على الاستقلالية والحرية ووحدة القرار ولا أحسبني مؤهلاً لذاك الصداع الذي تسببه، حنين لي”
… ثم أكمل مغمغماً “حنين .. ذاك كان اسمها وفعلها .. كانت نسمة حنين هادئة، تبعث في أوصال روحي حباً وسكينة وبهجة لم أرغب في مواصلة الحياة بها .. اشتقت لحريتي ولإحساسي بأني سيد قراري الأول وسيد حياتي الأوحد .. مهما كنت رجلاً سعيداً بعلاقته فأنا أحن لوحدتي وشغفي بقهوتي .. أحن لإحساس حرية السعي وراء أي جميلة تعجبني دون الاصطدام بقيد يكبلني ويقول لي بأنني لدي شريكة ولا يجب أن أطارد الأخريات .. حسناً فعلت بدفعها للابتعاد .. لقد استعدت حريتي قولاً واحداً”
انتهى من رشف آخر رشفة من قهوته التي منحته قبلة الحياة لذلك الصباح، لكنها سرعان ما أورثته شعوراً بالوحدة حالما تركها.
عاد ليحدث نفسه قائلاً :”قهوة أو نساء أُخريات أو أصدقاء، لديك الكثير مما يشعرك بعدم الوحدة والونس طوال يومك .. فلم الارتباك إذن؟! .. أم أنها أشياء غير دائمة لا تمنحك شعور الدفء الداخلي الدائم الحنون؟ .. لا تمنحك ذاك الحنين الهادر الذي كان يحتوى أنفاسك طوال الوقت .. شعوراً غريباً بالاطمئنان والسكن الداخلي .. يقيناً مسيطراً بأنه مهما ساءت الأمور فهناك قلب في الجوار يلف قلبك بالحنو والأمان، وحميك من تقلبات الأيام وعبث المزاج ولفحات الوحدة وقسوة الاحتياج لمن يهدهد هذا القلب وتلك الروح”.
قال لنفسه مغمغماً في كِبر: “أنا أفضل الآن فأنا لا أحتمل أي قيود“.
ردته نفسه لنفسه بعنف: “لكن منذ متى كان السكن قيداً والدفء خانقاً والحب مكبلاً .. تحدث معها يا رجل وصل لمنطقة وسطى بعيداً عن عبث فكرة الرجل الحر الوحيد السعيد .. أنت تعلم أن ذلك محض هراء وأنك في حال يرثى له وحدك”.
زفر زفرة حادة ملقياً نظرة أخرى على هاتفه المغلق ثم ما لبث أن التقطه وقام بفتحه مستسلماً لسيل من الإشعارات المتأخرة التى قفزت أمام ناظره وهو يتأفف منها غير عابئ .. غير أن انطفاء وخواء عينيه ما لبث أن تحول لحنين مشتعل، حين قفزت أمامه رسالتها:
“أدهم .. انت فين؟ .. بطل هبل بقى وكلمني .. أنا عارفة إني أوفر وخنيقة بس بحبك .. مش عارفة إزاي بقولك كده بعد كل اللي قلتهولي .. بس مقدرتش أمنع نفسي .. كلمني بقى”
سرت ابتسامة حياة على قسمات وجهه ثم اشتعال للحياة بعيناه حين جاءه صوتها عبر الهاتف:
– أدهم انت فين؟ .. وحشتني
– حنين .. أنا آسف .. مش حقدر أعمل أي حاجة من اللي قلتهالك .. أنااااا
– هاهاهااااا آي نيو ات .. انا مش فاكرة اللي انت قلته أصلا .. يلا انزل عشان أشوفك .. الجو يجنن والمطر حلووو
– حنين .. بحِبك
منى عبد العزيز
6 فبراير 2019