#عنبـــر_67
#الجزء_الاول
عالم الأشباح والأرواح والجن والمردة وما إلى ذلك من كل كائنات تلك العوالم الخفية، لم أكن لأصدق بها أبدًا .. فأنا من الأشخاص الذين لا يؤمنون بتلك العوالم الخفية على الإطلاق.
كنت – وضعوا مليار خطًا أحمر تحت كلمة كنت تلك- أعتبر الحديث عن عالم الجن والعفاريت والأشباح ما هي إلا حديث لهو وسمر وتذكية للوقت أو ليخيف الناس بعضهم بعضًا بها وبخاصة الفتيات، أو هي حكايات الجدات تقصهم على أحفادها لتجعلهم ينامون أو يخافون من الخروج وحدهم؛ فكم سمعنا من أقاصيص صاحب القدم المسلوخة وما شابه ذلك من حكايات!
اسمع أحكم يتساءل عن تلك الكلمة التي وضعت تحتها مليار خطًا أحمر، كلمة (كنت) وما سرها؟!
-سأجيبك أيها العزيز أقول:
كلمة كنت لأن ما ممرت به وعايشته و رأيته خلال تلك التجربة وما سمعته جعلني أوقن بلا أي مجال للشك أن هناك عوالم مخفية عنا و أشياء كثيرة لا نعلم عنها شيء، كل ذلك جعلني لا أخاف فقط ؛ بل إني أصبحت وقتها أخاف حتى من ظل جسدي، وبعد تلك التجربة أصبحت على يقين بأن هناك ما لا يمكن تفسيره.
لا تتعجلوا فسوف أقص عليكم كل ما حدث ..فقط أمهلوني لحظات أرتشف فيها بعض من قطرات الماء.
كان هذا من ثلاثون عام تحديدًا فجر اليوم الأول من منتصف شهر يونيو، يومها كنت بحجرتي أستعد للذهاب إلى معسكري في الجيش ، و كان هذا أول يوم لي في الخدمة العسكرية، وكم كان يملأني ضيق كبير بداخلي؛ فأنا لم أكن وقتها أطيق الحياة العسكرية المحاطة بالأمر والنهي، وكنت أعشق الحياة المدنية حياة الحرية .. ولا أكذب عليكم وأصدقكم قولًا أنني حاولت بكثير من الألاعيب والحيل أن أحصل على إعفاء لي من الخدمة العسكرية ولكن لم أنجح كما أن والداي كان يصران على التحاقي بالخدمة العسكرية ويصبان بداخل أذني كلمات الشهامة والإقدام والواجب الوطني والانتقام من إسرائيل، ودحرها واسترداد كرامتنا وأرضنا، وكنت أنا مثلي مثل معظم شباب جيلي نرى أنه لن تحدث حربًا أبدًا، بل وسيبقى الوضع كما هو عليـــه للأبد ..
خرجت من منزلي يومها متوجها إلى مركز الإعداد حيث يتم استقبالنا ومكثت هناك أربعون يومًا، نتعلم فيه فنون القتال والالتزام العسكري وما إلى ذلك، خلال تلك الفترة تعرفت على مجندان أو اثنان من زملاء الدفعة، هما من اتخذتهما صديقان وأخوين لي هما: ناجي و سامح ..
نسيت أعرفكم بنفسي أنا رؤوف شاب عادي مثل أي شاب مصري متوسط الطول رياضي الجسد إلى حدٍ ما فلا أنا بنحيفٍ ولا بممتليء، حاصل على شهادة جامعيه (بكالوريوس تجارة).
كانوا هم من يهونان عليَّ أيام معسكر التدريب الشاق الممتليء بالطوابير والتدريبات وما إلى ذلك.
ومر الأربعين يوما بحلوهم و مُرهم،
وبدأ نقل كل واحد منا إلى وحدته التي وزع عليها، وحدتنا كانت قريبة جدًا من الجبهة، ومر اليوم الأول طبيعيًا ليس فيه ما يريب، فور وصولنا لوحدتنا تم عمل طابور واصطففنا فيه ثم تم تعريفنا بأماكن المبيت الخاصة بنا، كل شيء سار طبيعيًا وبهدوء.
في اليوم الثاني ..
بعد طابور الصباح والتدريبات والطعام ومع اقتراب مغيب الشمس بساعة ونصف الساعة وقفنا في طابور الخدمة يسمع كل منا مكان خدمته، ينادى اسم هذا وذاك ويعرفهم مكان خدمتهم وهكذا إلى أن قال: مركز خدمة عنبر 67.
وقتها شعرت بأن الصمت حل على الجميع، عيونهم كانت تنطق بنظرات غريبة لم أفهمها في حينها، ولكن وقتها لم أعير الأمر اهتمام ووجدت أن أسمائنا هي التي يتم النداء عليها(رؤوف وسامح وناجي).
ورأيت أن الجميع ينظر لنا نظرات تحمل الرعب والشفقة وصدقًا أصابنا الاندهاش والتعجب من صمت الجميع ونظراتهم ولكننا لم نجعل هذا الأمر ذو أهمية، وتوجهنا نحو السيارة التي سوف تنقلنا إلى موقع خدمتنا.
موقع عنبر 67…
و أثناء ذهابنا إلى السيارة التي سوف تقلنا إلى الموقع وجدت أن هناك جندي يظهر التوتر على ملامحه بشدة وعيناه مركزة عليَّ بشكل غريب، اقترب مني بسرعة وأمسك يدي بقوة شديدة إلى حد أن قبضة يدي كانت تأن من الألم بشدة، وهو يقول لي بصوت يحمل بين طياته الجدية والصرامة والذعر:
-لا تذهب، لا تذهب إلى عنبر 67 لا تذهب .. لا تذهب إلى ذلك العنبر.
كان يردد تلك الجملة فقط وبشكل هستيري، ولكن كل ما كان يشغل ذهني في تلك اللحظة هو قبضة يده التي تحكم سيطرتها على يدي وتكاد تحطمها، ووجدت نفسي أصرخ به بصوتٍ عالي:
-اترك يدي …اترك يدي أيها المجنون اترك يدي.
فهرول سامح وناجي مسرعين في اتجاهي وامسكوا بذلك المخبول يحاولون إبعاده عني، فيما تجمع حولنا نفر كثير من المجندين، الجميع يحاولون تحرير قبضتي من قبضة هذا المجنون وهذا المجنون مستمر في ترديد جملته:
– لا تذهب إلى هذا العنبر ..
إلى أن حضر على صوتنا أحد ضباط المعسكر وهنا ترك ذلك المجنون قبضتي،
فنظر إلينا بصرامة وقال لنا أنتما الاثنان إلى السجن فورااا.
ولكن تدخل زملائي والمجندون المتواجدون وقاموا بشرح ما حدث للضابط فأمر باصطحاب ذلك المجنون إلى السجن وبعدها نظر لي بصرامة قائلًا:
-هيا أيها الجندي إلى موقع خدمتك هيـــا.
فنظرت إليه وأعطيته التمام، ولكنه وجد أنني أدلك يدي من أثر قبضة ذلك المعتوه وتظهر على وجهي أمارات الألم، نظر إليَّ الضابط قائلًا في صوت خفيض وعطف أخوي كبير:
-ولكن اذهب أولًا إلى العيادة الطبية ليروا ماذا حدث ليدك .. هيا.
وعلى الفور توجهت إلى العيادة الطبية،
وفور أن ذهبت إلى العيادة قابلت هناك د/ فهمي، إنسان خلوق ذو وجه سمح، تشعر بطيبته من خلال كلماته التي يتحدث بها إلى من يدخل إليه .. يتحدث بأسلوب محترم و راقي ..
وبعد أن نظر إلى يدي وحركها يمينًا ويسارًا طمأنني وقال لي وهو يبتسم لا تقلق فقط جزع خفيف ورباط ضاغط ودهان يعالج إصابتك.
فشكرته ، وبدأ بوضع الدهان على يدي ودلكها وهو يسالني:
– ولكن ما الذي حدث لتصيبك تلك الإصابة؟! أنا أرى علامات أصابع يد على جلدك.
وبدأت أقص عليه ما حدث معي، ولكن ما أن لفظ لساني كلمة عنبر 67 حتى نظر إليَّ نظرة غريبة وتبدلت ملامح وجهه. فجأة قال لي بلهجة عسكرية غير لهجته التي كان يتحدث بها قائلًا:
-هيا قم إلى عملك فلقد انتهيت من ربط يدك، هيا .. هيا.
كان يحاول أن يقولها كما قلت سابقًا بلهجة عسكرية آمرة، ولكنها كانت تحمل في طياتها خوف يحاول أن يخفيه.
انصرفت على الفور وغادرت العيادة الطبية،فوجدت في انتظاري كلًا من ناجي وسامح، على الفور توجهنا إلى السيارة التي سوف تقلنا إلى موقع خدمتنا، وبعد مرور وقت طويل نسبيًا وصلنا إلى موقع خدمتنا .. موقع العنبر!
وحين وصولنا أصابتني دهشة كبيرة للغاية، ولم تصبني وحدي بل أصابت معي كلًا من سامح وناجي.
وكان سبب دهشتنا وحيرتي أن مكان خدمتنا ما هو إلا عنبر .. عنبر فقط تحيطه الصحراء من كل جانب!
ليس بجانبه أي شيء لا مخزن زخيرة ولا مخزن أسلحة ولا أي شيء، فقط عنبر وحيد في وسط صحراء كبيـــرة، عنبر من الحديد يصل طوله إلى خمسة عشر مترًا وعرضه نحو خمسة أو ستة أمتار، وارتفاعه إلى ثلاثة أمتار بشكل مستطيل سقفه يمثل نصف دائرة، له بوابتان تحتل كل بوابة طرف من الأطراف مغلقة بباب حديدي كبير على طرف كل باب مقعدان ملتحمان بالعنبر، مقعد على اليمين ومقعد على اليسار مخصصان بالتأكيد للحراسة الخارجية وبينهم وبين الباب الداخلي للعنبر قرابة المترين وكان هذا المكان هو مكان خدمتي ..
فور وصولنا قام الشاويش المصاحب لنا بتوجيهنا إلى أماكن حراستنا، أنا على أحد الأبواب وناجي على الباب الأخر وسامح يقف في العراء أمام العنبر، وأخذ طاقم الحراسة الأخر والذين لم يتبادلوا معنا ولو كلمة واحدة فقط رأيت في أعينهم نظرات رعب وشفقة غريبة.
نسيت أن أخبركم أننا نحن طاقم الخدمة الليلي، فـ على عكس كل خدمات الجيش المقسمة إلى ثلاث فترات كانت خدمة عنبر 67 مقسمة إلى طاقميّ حراسة نهاري وليلي فقط، وعندما سألنا الشاويش المصاحب لنا قال باقتضاب ودون إكثار في الحديث:
-المكان لا يستحق أكثر من طاقمي حراسة، ولم تخرج من شفاهه كلمة أخرى إضافية حتى وصلنا إلى الموقع .
جلست في موقع خدمتي أبشر نفسي بليلةٍ طويلة مملة في هذا المكان المقفر، ووجدت نفسي أفكر دون إراده مني في حديث ذلك المجند المجنون الذي أصاب يدي وذلك التحذير الذي أخذ يردده كثيرًا وبشكل هستيري مجنون، فأخذت في الضحك بصوت خافت على هذا الحديث الغريب …
ولكن ما حدث بعد ذلك كان غريب .. كنت أشعر وكأن أحدهم يعبر من خلفي، كيف هذا وخلفي ما هو إلى جدار من حديد!
بل أسمع من يهمس في أذني .. وأسمع كأن هناك من يتحدثون أفرادًا أو جماعة .. أشعر بهواءٍ ساخن وبارد، يمروا من أمامي أو من خلالي .. بل كنت يوميًا أسمع صراخ مكتوم يدوي من داخل العنبر ..
نعم من ذلك العنبر المهجور!
ولم أستطع أن أخبر أحد بما سمعته أو شعرت به .. كنت أخاف أن لا يصدقني أحد؛ فأنا شخصيًا لو قص عليَّ أحدهم هذا منذ وقت قريب لكنت استهزأت به وسخرت منه وأنا لا أحب أن أكون موضع سخريه لأحدهم.
ولذلك كنت أحتفظ بما يحدث معي سر بيني وبين نفسي حتى لا أتهم بالجنون أو أن أصبح هدفًا لسخرية المجندين ومرت الأيام على هذا المنوال .
إلى أن جاء ذلك اليوم …
اليوم الذي قصصت من اجله ما سبق كله…
من أجل أن أصل إليه وإلى ما حدث بعده..
#يتبع