في صبيحة يوم بائس تخيل منبطح من المنبطحين أنه يستطيع خلق جيل جديد من المنبطحين فشرع يهتف لكل من هب ودب في محافظته وذلك أثناء طابور صباح ذلك اليوم وشرع التلاميذ المجني عليهم في ترديد الهتافات خلفه بلا وعي ولا ذنب يذكر.
كان الهتاف كثير بلا أي هدف ولا معنى .. فقط هتاف وانبطاح بلا حدود .. الهتاف الوحيد الذي بدا لي ذا معنى هو هتافه تحيا مصر والذي وللعجب لم يحظ منه إلا بعدة مرات من الاهتمام ثم ما لبث أن تفنن في الهتاف لكل من هب ودب في محافظته ووزارته .. حتى وصل إلى هتاف كان في رأيي هو الأكثر إضحاكاً وربما الأكثر مدعاة للبكاء حيث شرع يهتف (عاش السيد مدير الادارة! .. عاش السيد مدير الادارة!)
كان ما شعرت به من دهشة بلا حدود لا يوصف .. وما شعرت به من تساؤل لا يحده شيئ .. كان الهتاف لمدير الادارة هو أعجب ما في الموقف فمن هو هذا المدير وما مدى سطوته أو سلطته كي يكون له من يحاولون مجاملته ومداهنته والاقتراب منه والطمع في عطاياه!
وجدتني أقول حتى مدير الادارة؟! حتى مدير الادارة؟!
كانت سخرية فجة للغاية لم أحتملها فالنفاق والانبطاح اتسعت رقعته بفظاعة حتى صارت تشمل صغار المسئولين .. وبالمناسبة أنا لا أجد مبرراً أياً كان للهتاف لكبارهم لكني أفزع كثيراً من فكرة تغول مسئول صغير بتلك الصورة .. وكأن للكراسي لعنة يصاب بها من يجلس عليها في بلدي مهما صغر الكرسي أو كبر فيصبح المنصب والكرسي اللعين مبرراً للكبر والتغول على من هم أقل وأضعف وأصغر منا .. ليصيروا مبرراً للعبث والنفاق واستجلاب منافع ليست من حق هذا الشخص واستغلال منصبه لمصلحته الشخصية بل ولاذلال من حوله.
حاولت التركيز في ملامح الشخص الذي يهتف فلم أستشف ما بداخله وان بدا لي كمسخ يفعل أي شيئ لينال رضا ماسخيه .. وجدتني أبحث خلف كل مسئول صغير أو كبير وأفكر في مدى تغوله عمن يقلون عنه في المناصب.
وجدتني أتخيل حجم المخالفات والفساد الانساني الذي يمارسه ضد من يرأسهم .. هل هو قمع وتقزيم فقط .. فأنا حامل اللقب وحارس الكرسي على صغره وقزامته.
وجدتني أفكر في تغول أياً كان على من هم أقل منه.
الفكرة بحد ذاتها مريعة فحالما تستطيع الحصول على مكانه أعلى ولو بقليل ممن حولك وتبدأ حفلة التغول والتكبر واستغلال تلك المكانة حتى ولو كان المنصب رئيس سعاة مصلحة ما في مكان ما!!
نعم تلك هي الحالة وهذا ما نواجهه فحالما يرتقي الشخص في المنصب وكأنها لعنة تصيب كل من يرتقي عمن حوله فيبدا في تعذيبهم وتقزيم أدوارهم مقلداً بذلك من سلفه في المنصب مهما قل المنصب أو زاد فالسلوك في المحروسة لا يتغير للأسف!
أشعر بتلك اللعنة تجتاح حياتنا في كل شيئ فكل من ملك على الآخر درجة استقوى بها عليه وصار يقزم من دوره ويتغول عليه ويقلل منه ويمارس معه كبراً لا قبل لنا به .. المدير في ادارته والوزير في وزارته ورئيس السعاة بين سعاته وأستاذ الجامعة مع طلبته بل وزملاءه الأقل منه درجة والمدرس في مدرسته بين من هم أقل منه في الدرجة من زملائه وحتى على تلاميذه فهو يملك عليهم درجة !! الزوج في بيته والزوجة على أولادها والاخوة الكبار على اخوتهم الصغار!! الكبار سناً على الشباب الأصغر سناً .. زملاء العمل على القادم الجديد عديم الخبرة .. الجيران الأقدم على جيرانهم الجدد !! وكأننا أصبحنا بلداً لمن يستيقظ أولاً فيلحق اول طابور الصدارة !! أتساءك حقاً عن سبب تلك اللعنة من سلوكيات يملؤها الكبر والقمعية تجاه من نرتفع عنهم درجات فنظل نسقيهم تلك السلوكيات القميئة حتى اذا ما بلغوا ما بلغناه من درجة بدءوا لا شعورياً وأحيانا عن قصد وتجبر في ممارسة ذات الممارسات!
أما من عاقل يشعر من يرأسهم أن الدرجة التي يشغلها هي تكليف وليس تشريف؟.. هي عبء وجهد مضاعف كلف به لخدمة من يقوم بخدمتهم من جمهور؟
اما من عاقل يتذكر كلكلم راعٍ؟ .. يشعر من يقلون عنهم في الدرجات أن العزة فقط بالله وليس بالمناصب أو الدرجات؟
أما من عاقل يشعر من حوله أن الوصول لدرجة ما هو الا نتاج جهد وجب عليهم القيام به للحصول على الدرجة وأنها فقط درجة؟ .. نعم .. فقط درجة .. لا تستوجب منا لا الخوف ولا المداهنة ولا النفاق .. لا تستوجب منا سوى الاحترام واستمرار العمل .. حتى لا نضطر كل يوم إلى هتاف قميئ نحن عنه أغنى للسيد مدير الإدارة!!!