(1)
قالت لي الفتاة البسيطة التى كانت تحضر أحياناً لتساعدني فى شئون منزلي، أن غيابها عني لفترة كان خارج عن إرادتها، وأنها مرت بفترة عصيبة مع زوجها، انفصلت عنه فيها، وكانت لا تعلم مصيرها ومصير طفلها منه.
واستطردت ودونما إلحاح مني فى السرد حتى تستريح فيما يبدو.. قالت أنه اعتاد على تعاطي المخدرات، خاصة مخدر “الحشيش” حتى ينتقل لعالم آخر “يعمل دماغ”، وأكدت أنه وهو الأسطى البارع فى النقاشة، كان يقوم بالإنفاق على بيته بالكاد حيث كان يعمل يوماً ويجلس بالبيت عشرة.. وأنه كان كثيراً ما يعتمد على ما تجنيه من العمل بالمنازل فى الإنفاق على منزلهم وطفلهم الرضيع!.. وأردفت باكية: “لقد قام بإرسالي عند أمي، عندما طالبته بألا يرسلني للخدمة فى البيوت حتى أستطيع ان أرعى طفلي الرضيع، وألا أتركه باستمرار عند الجيران جائعاً باكياً حتى مرض، وأن نكتفي بما يدره عليه عمله فى النقاشة، فثار وقام بإرسالي لمنزل والدتي”!!!
قلت لها: “ألم يهدأ ويأتي ليعتذر عما بدر منه بعد فترة” .. فقالت لي” “نعم، لقد حضر كي يأخذني، وعندما واجهه خالي بما فعل بل وأصدر خالي إيماءات لم أدركها حينها عن عدم احترامه لغياب صاحبة البيت عنه، وهو ما أدركته لاحقاً من الجيران، عندما علمت أنهم قد رأوا فتاة غريبة تدخل شقتي فى إحدى الليالى.. وعندما تحدث له خالي بذلك، ثار وهدد وتوعد وبدأ فى قذفي بأبشع الشتائم والتهم، وأني لا أصلح زوجة وأني لا أشبعه كرجل وأني غير نظيفة ولا أقوم بتنظيف بيتي”
قلت لها: “كل تلك البذاءات أمام أهلك ألا يستحى؟ أيوصف رجل أصلاً وهو يهين عرضه أمام الآخرين؟!”.. فابتسمت بشحوب واجابت: “لا .. لقد بدأ حديثه فى منزلنا وبدأ فى الخروج منه مروراً بالسلالم وشقق الجيران حتى أنهى حديثه الصارخ وهو فى الشارع مقدماً عرضاً رهيباً أمام المتفرجين الذين هرعوا لشرفاتهم ليسمعوا قصصنا العائلية المفبركة من زوجي”!!!
العجيب فى أمر الفتاة أنها تصالحت لاحقاً مع زوجها النقاش من أجل طفلها، واستانفت بؤسها وعملها فى البيوت كى تساعده، رغم ما يدره عليه عمله من مال وفير، وعندما لُمتها على عودتها له، قالت لي: “يا مدام هو مبيعملش حاجة غريبة عنا، يعني ده فى حتتنا بيوت كتير عايشة كدة، الستات بتخدم فى البيوت والرجالة مبتنزلش من البيت، إلا عالقهوة باليل عشان يعمروا دماغهم”!!!
(2)
أرسلت لي إحدى صديقاتي فيديو، قالت لي فى رسالتها أنه قنبلة وأنى سأُصدم حين أراه، والعجيب أني وجدت عنوانه، أنه للراقصة الشعبية الفتاكة فلانة، وأنها تحييى أحد الأفراح!
تعجبت من صديقتى، ثم ما لبث الفضول أن جعلني أشاهد الفيديو، فهالني ما رأيت من خلاعة من الراقصة، في أوضاع لا تمت للرقص الذى أعرفه بصلة.. رأيت ما يشبه الجنس الصريح بينها وبين الطبال ثم المغنى ثم من شاء من أعضاء فرقتها، فقط الفرق بينه وبين الجنس الصريح، أنهم يرتدون ملابسهم!!!
ذهلت لما أراه، وولولت من الكارثة عندما بدأت أتفقد ما حول مسرح الجريمة، أقصد المسرح الذى عليه الراقصة وفرقتها، فوجدت الجميع فى حالة ترقب ومتابعة بما فيهم الأطفال الصغار الذين يحضرون الفرح بينما تصطف زجاجات البيرة على المناضد، وكأننى قد خطفت من عالمي وبلدى، لأُلقى فى عالم لا أعرف له من الواقع ملامحاً.
تذكرت لحظتها قضية شهيرة أُثيرت حول مطرب شعبي شهير، كاد أن يلُقى فى السجن بتهمة خدش الحياء وأفعال منافية للآداب فى الطريق العام مع الراقصة التى كانت تحييى بصحبته أحد الأفراح، وتذكرت دفاعه المستميت المستفز عن نفسه، وتصميمه أنه لم يفعل شيئاً غريباً وأنه قال بالحرف: “لو معملتش كده، حيضربوني وهى دي عوايدهم في الأفراح دي، ومقدرش أغيرها”!!!
(3)
شوارع سيئة.. وعشوائيات منتشرة.. ينتج عنها استقدام وسيلة مواصلات جديدة ومختلفة حتى تستطيع الحركة فى تلك الشوارع، فيُبتلى المجتمع بما يُسمى بالتوكتوك كوسيلة مواصلات مناسبة للشوارع الضيقة والأرض غير الممهدة.. وتبدأ معه مجموعة أشياء لها وثيق العلاقة بالوسيلة الجديدة.. تبدأ موسيقى المهرجانات فى الانتعاش بشكل لا يوصف وتصدح فى الأرجاء من خلال التوكتوك الذى يسير ناشراً كل ما هو قبيح وصارخ فى المجتمع الموازي .. مهرجانات وأخلاقيات تناسب مجتمع ولاد البلد المتحول.. فمرة تحرش، ومرة سرقة، ومرة خطف .. وكله بالتوكتوك!!!
تمر بعض من تلك الأحداث وغيرها كثير، كلما تفكرت فى أحوال الشارع المصرى البسيط، الذى كانوا يطلقون عليه شارع أولاد البلد .. شباب بسيط يغرق فى رقة حال وربما فقر لكنه كان يعرف للرجولة قيمة ومكان .. يعرف للشهامة موطناً .. أتفكر فى تلك الشواهد، وأنا أبحث عن القيم الشعبية الأصيلة التى توارت بعيداً، وحل محلها قيم عبده موتة والقشاش وإبراهيم الأبيض!!!
أتساءل عن الأسباب التى حولت رجل الحي البسيط، من رجل كادح يموت ليطعم فلذات أكباده، إلى طفيلي يعيش على عرق النساء فى بعض الأحيان، أو إلى مدمن، يعمل ويعيش ويدور فى دائرة المخدرات فى أحيان أخرى؟!
أتساءل عن قيم العنف التى غزت أحيائنا الشعبية، فلم يعد يمر يوم إلا وهناك مشاجرة تحدث وشخص يُصاب بسلاح أبيض! علاوة على باقي الأسلحة التى انتشرت فى الآونة الأخيرة دونما رادع أو مراقب!
هل هو الفقر وضيق العيش الذى حاصر هؤلاء الرجال كالفئران فى مصيدة المجتمع المتجاهل؟!
هل هو الجهل الذى لازلنا نعاني من نسب فائقة العلو فيه، ما بين أمية القراءة والكتابة، وأمية الثقافة التى يقع تحت طائلها الكثيرين من الحاصلين على مؤهلات عليا؟!
هل هى قيم المجتمع الفاسد الذى يغض الطرف عن الكثير طالما لا يمسه هذا الكثير؟!
من حول هذا الرجل النبيل الشهم الحامي، لهذا العابث؟!
ومن حول تجول فتاة بمفردها فى حي شعبي فى أمسية من الأمسيات من أمن وأمان تحت جناح أشهم وأكرم الرجال، إلى مغامرة غير مأمونة العواقب فى عرين ضباع لا تتحلى بثقافة سوى ثقافة نهش الأعراض؟!
أتساءل وأحلم، بخطوات يتم انتهاجها فى طريق الإنقاذ، بدلاً من انتظار صفعة تجعل الجميع يفيقون من غفلتهم.. ويصحون من سكرتهم.. فالانتقام من أنفسنا ليس هو الحل الأمثل للخروج من بوتقة الاختناق بآثام المجتمع.. بل هو الاعتراف بأخطاء، بل خطايا، لطالما مارسها الجميع فى حق أوساط بسيطة تستحق الرعاية لا التجاهل.. تستحق التكافل لا العقاب.. تستحق التعاطف لا الاشمئزاز.