كالبدر حين يشق ليلة ظلماء .. شقت تلك الفتاة ظلام ذلك المجتمع المريض الذي ينفى ويكذب مرضه.
مريم واحدة من بنات ذلك المجتمع، تتكرر حكايتها بشكل أو بآخر، لكن من حسن حظ أو سوء حظها، لا أعلم بدقة ما نوع الحظ الذي حالف مريم هنا تحديداً، من حظها أن تسلط عليها الأضواء فتعكس وتكشف ما أصاب مجتمعنا من عنصرية وإحباط وحقد وسخرية. مريم مثال وليست حصر!
كم الطبقية والعنصرية التى ظهرت مع تلك الحالة، وغيرها طبعاً من حالات، كم يكفي لقتل النفس معنوياً بغير حق، والنفس هنا ليست مختصرة في حالة تلك البدر، بل في كل من تسول له نفسه أن يحلم لابنته بحياة كريمة ترفع الراس ويفتخر بها.
جريدة لباشوات البلد في الأربعينات، منافقين لكل عصر، رفعت مانشيت يعاقب عليه القانون! هل ستعاقب الجريدة؟! لا أظن وإن كنت أأمل في ذلك، فقد أُقيل وزير العدل لعنصريته الفجة لتهدئة الرأي العام، فلماذا لا تُعاقب جريدة لخدشها للرأي العام وفضحها للمرض العام؟! ثم تتابعت المواقع بنفس الابتذال ويطلقون نفس التعبيرات مع كل خبر … ماذا حدث؟! وكيف حدث؟! ومتى حدث؟! ولماذا أصبحت الكلمة الجارحة أكثر انتشاراً وانتصاراً.
الإجابة عن ماذا حدث؟! هو أنه أصبح المجتمع لا رابط أخلاقي ولا ضابط قانوني له، هو أن الفرد في المجتمع استحل وجع غيره، أصبح المجتمع كفرد في نكتة مؤلمة كان يشير لصديقه على أحد الأشخاص بطلقات مسدسه. فيصور الشخص قتيلاً. نعم نحن هذا المجتمع المفتقد لأخلاق وحوار راقي!
كيف حدث؟! حدث ذلك حيث أصبح المال هو سيد الجميع، والسخرية هي سلاح لقتل كل جميل، حيث أصبح مبدأ إللى يبص لفوق يتعب هو السائد، وحيث ساد التمييز بين الجميع، تمييز الأبيض عن الأسود والولد عن البنت وابن فلان عن ابن علان.
متى حدث؟! حدث تدريجياً، أعتقد حين بدأت فترة الانفتاح، حيث فتح الباب للفساد ولبيع الضمير .. طعام فاسد وبناء فاسد ورشاوي، وانفتاح على البحري مع نشر فكرة أن التطبيع ليس خيانة، بل شطارة .. كل المبادئ المسلم بها أطيح بها عرض الحائط ثم طارت لفوق.
أما، لماذا؟! فهذا كان هدف ليكون المثل الأعلى هو من يملك مال أكثر بأي طريق لا يهم، لا معنى للحلال والحرام، المعني الحقيقى هو في العملات والبنكنوت والأرصدة، حتى لا يحاسب الفاسد بل يمشي رافع رأسه.
والنتيجة أن يستحل الجميع أن تنتشر الفضائح الشخصية في البرامج، ويتباهي المذيع بفضح الناس، فلا يحاسب ولا يعاقب، بل يحضر المؤتمرات واللقاءات الهامة، يهدد نائب للشعب زملائه بل يرفع حذائه في وجه جمهور من الشعب، تنتشر ألفاظ مشينة وسباب في مسلسلات وأفلام بدون رابط ولا رقيب.
(الأدب فضلوه عن العلم) .. عبارة طالما قالها الأجداد لأحفادهم، ليتعلموا أنهم في طريق العلم لا ينسوا أن يسبقه الأخلاق والأدب .. للأسف الشديد، ذهبت العبارات والأخلاق مع الريح، فأصبح الجميع إما جريح كلمة أو مهان أو لا مبالي أو سليط اللسان.
ما أصعب حوار وجوار بين مجتمع أفراده ليس بينهم طول الوقت سوى السخرية من بعض والتشاحن والغضب، وما أجمل أن تعود عادات وتقاليد وأخلاق آبائنا وأجدادنا لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بالحب والود والأخلاق، بجانب العلم!
ما أعظم أن تأتي الفرصة لصاحبها فيفتخر الجميع بدلاً من أن يسخر، ويتابع طريقه بالتشجيع فيتحمس ونأخذه كمثال وقدوة نضربها لأشخاص يعتقدون أنهم مضطهدون لعنصرية المجتمع.
لما لا نشجعهم لنري طه حسين وعباس العقاد وسميرة موسى وأم كلثوم ومجدي يعقوب جدد؟!!!
لماذا نقتل الأمل في مهده، وندوس على الورد قبل ازدهاره، ونخلع أشجار غدٍ أفضل؟!!!
الحياة تستحق أن تعيشها محب ومشجع لا كاره محبط، المسئولية عامة من الكبير للصغير .. من المسئول للمواطن البسيط .. القضية تحتاج إعادة تصنيع لهيكل المجتمع من الداخل والخارج.
لا أعلم كيف .. بإنشاء وزارة أو هيئة .. بمشاركة من ومتابعة من .. لا أعلم .. لكن المسألة مهمة، وموجودة كل يوم.
الحل يجب أن يأتي من الفرد، والأسرة، والدولة، بزرع المبادئ، وحصد الثمار .. ولو بعد حين .. فـ«مريم» حالة .. على سبيل المثال لا الحصر.