وهم المثالية
“كم أنت مثالي!” تقال تلك العبارة عادة على التهكم أحيانا والشعور بالإجلال والتبجيل للطرف الآخر في أحيان اخرى، هكذا تأرجحت المثالية بين النقيضين طوال الوقت، فتعتبر إشكالية المثالية من أكثر الإشكاليات لغطًا منذ قديم الزمن، واحتلت مكانا هاما بين مباحث الفلسفة، فكانت أول من طرح فكرة المثالية وحاولوا البحث فيها.
يعتبر أفلاطون هو الأب الروحي للمثالية، تنص فلسفته عنها على تمجيد العقل والروح والتقليل من دور المادة، ويتفق أفلاطون وهيجل على أن الحياة الصالحة لا تتحقق إلا في وجود مجتمع مثالي يكون لكل فرد فيه وظيفته المحددة سلفًا. ولنا في كتابه الجمهورية خير دليل على رأيه، فقد تخيل مدينة فاضلة وأسماها يوتوبيا، تقوم تلك المدينة على المثالية، والتي بدورها تبلور مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسية: الحق والخير والجمال.
نرى أن أفلاطون تبنى فكرة غاية في السامية، إلا أنه كان ذو رأي صلب، فكان متعصب لرأيه ولأفكاره التي لا يقبل النقاش حولها، فالمثالية التي بحث عنها لم يجدها في نهاية المطاف، فحشحش بعض أتباعه من حوله رويدًا رويدًا، ومنهم من طور الفكرة كما ارتأى فأسس مدرسة جديدة تنافس مدرسة أفلاطون.
ذلك لأن الإنسان -في رأيي الشخصي- لم يخلق للمثالية، في ذلك نجد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» [رواه الترمذي]، لن نتعلم إلا إذا أخطأنا، والخطأ يتنافى مع المثالية.
هناك نوعان متشبثان بفكرة المثالية:
النوع الأول:
من يضع لنفسه صورة ذهنية مكونة من بعض الصفات الفاضلة التي يجب أن يتحلى بها، ولن يسمح لنفسه بتقبل ذاته إلا بتحقيق تلك الصورة، فلابد أن يكون صادق، حصيف، محب للخير إلي غير ذلك من الصفات الحميدة. ولأنه إنسان يحمل في داخله الخير والشر معًا، فإنه يقع في شرك الازدواجية، ويضعف لصعوبة الوصول إلى تلك الصورة القريبة إلى الكمال التي وضعها لنفسه، فيحدث صراع داخلي يفقده كل السلام النفسي، وبالتالي يكفر بكل ما هو جيد داخله لأنه لم يقدر على بلوغ ذلك الكمال المنشود فيتحول إلى النقيض.
أما النوع الثاني:
فهو مدعي المثالية، ذلك النوع الذي يحدث الآخرين عن مثاليته وأخلاقه الحميدة، فهو دائمًا منزه عن الخطأ. أما في الحقيقة فلا يوجد داخل هذا النوع إلا كل إثم وشر، وصوت الهزيم يرعد في عقله بأنه غير مقبول بين الناس، ولذلك عليه بأن يتباهى بأشياء منعدمة داخله، حتى يرى نظرة احترام في أعينهم، تلك النظرة التي لا يراها في عينه عندما ينظر لنفسه في المرآة. إن ما يحمل البعض على ادعاء ما ليس فيهم هو انعدام الثقة في نفسه حسب رأي علم النفس.
أما عباس محمود العقاد المفكر والفيلسوف الذي له أثيث الأثر في نفس كل من يقرأ له يرى أن المثالية في فلسفة حياة تتلخص في بضعة سطور: “غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرًا”.
هو يرى أن السبيل للوصول المثالية في نطور أنفسنا التي يكمن فيها سر الغنى، ونسعى للعمل الجاد، ونفهم المراد من غايتنا، وأن نقدر أنفسنا قبل تقدير الاخرين.
علينا ترك وتحطيم تلك الصورة البالية عن المثالية التي أرادها أفلاطون، وعلينا إدراك طبيعة النفس البشرية التي تخطئ وتصيب، وعندما تخطئ تعترف بالخطأ وتتعلم منه ولا تكرره ثانية. ولابد من أن نقلع عن مقارنة انفسنا بأترابنا، فكل نفس ميزها الله بشىء محدد ويختلف عن الآخر. حينما يتعرف كل منا على نفسه من جديد سيتقبلها كما هي ولكن سيهذبها ويطور منها، وسيتصالح معها محققًا بذلك المجد الخاص به.