رواية «فارس» – بقلم أسماء خلف
الفصل الثاني
أخذ فارس يحكي لخالد، والدموع تنهمر من عينيه .. لم يكن حديثه مفهوماً .. ولم تكن مشاعره متناسقة، فأخذ بالبكاء تارة .. وبالضحك تارة أخري، كالذي تجرع كمية كبيرة من الخمر، وهو لم يكن كذلك.
كان خالد ينظر إليه نظرات شفقة .. فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة .. فقط اكتفي بالإنصات إليه.
وفجأة .. بدأ فارس ينحدر بسيارته هنا وهناك .. وبدت على وجهه علامات الخوف والارتباك .. كأنه رأي شبحاً،،،
وأظن أنه كذلك .. فقد رأي امرأه تقف أمام سيارته .. لا تحرك لها ساكناً .. حتي كادوا أن يصطدموا بشاحنة كبيرة، ولكن فارس أسرع بالضغط علي الكابح .. ليبتعدوا عن تلك الشاحنه .. ويصطدموا بإحدى الأشجار.
نجوا بأعجوبه شديده .. من موت مؤكد .. ولكن لسوء الحظ كان فارس فاقداً للوعي .. تسيل الدماء من رأسه، وعندما رآه خالد في تلك الحالة .. ما كان منه إلا أن أسرع وحرك فارس قليلاً، ليصعد مكانه ويقود السيارة لأقرب مشفى.
كان خالد في أشد الحزن على صديقه .. بل كادت نياط قلبه تتمزق لرؤيته بتلك الحاله .. وحينما وصل إلى المشفى، أسرع لطلب المساعدة في حمل صديقه إلى الداخل .. وفي غصون خمس دقائق، وصل الطبيب، وفحص فارس .. وبدأ في خياطه رأسه.
لم يكن يشعر فارس بأي شئ .. فقد كان في عالم آخر .. عالم ليس به إلا صوت السكون .. فقط .. طمأن الطبيب خالد قائلاً: متقلقش ياا أستاذ .. هى شويه كدمات بسيطه .. كلها كام ساعه ويفوق .. بس هو لازم يبات هنا النهارده لحد ما تتحسن حالته.
كان فارس غارقاً في عالمه .. وأخذ يتذكر والدته وهى في المشرحة .. ذلك اليوم كأن رائحة المشفى هى من أعادت له ذكرياته، وربما لأنه مر من أمام باب مشرحة ذلك المشفى أثناء حمله ليصل إلى الغرفة التي سيقضي بها هذه الليلة.
كانت براءة العالم تجتمع في وجهها، فظن للحظات أنها نائمه فأخذ يحتضنها والدموع تتساقط من عيناه على جسدها .. كان يتمنى أن يعطيه القدر خمس دقائق فقط .. فيعتذر لها ثم يودعها…
عجباً ثم عجباً علي بني البشر، فهم لا يشعرون بقيمه الأشياء إلا إذا رحلت!
وفجأة … إذا بهمهمات تهمس في أذنه لتوقظه من نومه مفزوعاً .. فانتفض مذعوراً ولكن سرعان ما اطمأن قلبه، عندما وجد خالد مستلقياً بجواره علي تلك الأريكة .. فتنفس الصعداء وأسند رأسه الملئ بالكدمات، أو دعونا نقول الملئ بتلك الذكريات الموجعة على وسادته .. وأخذ ينظر إلى سقف الحجرة، ويحرك عينه هنا وهناك .. وبعدها أحس بهواء خفيف على وجهه .. كان ذلك الهواء ساخناً .. وفجأة .. أحس خالد بخطوات خافتة تأتي من الخارج .. ثم رأى طيفاً يظهر من خلف باب غرفته .. وإذا بالمقبض يتحرك ببطء .. انتابته نوبة ذعر لوهلة .. ولكن استجمع ما تبقا من شجاعته وأخذ يستند علي الجدران .. كان رأسه ثقيلاً جداً عليه لدرجه أنه ظن أنه سيفقد توازنه ويقع على الأرض .. إلى أن بلغ الباب وقدماه ترتجفان أقترب منه بحذر.
وعندما فتحه لم يجد شيئاً خلفه .. تحامل علي نفسه وسار قليلاً في ذلك الممر الذي كان يملأه صوت السكون فقط .. تباً لذلك الصمت وتلك الإضاءة الخافتة التي تملأ قلبك رعباً .. أخذ يجوب المكان بعينيه في حركة دائرية لترتكز في النهاية على آخر ذلك الممر .. فتظهر أمامه امرأءة شابة .. لم تكن ملامحها ظاهرة لفارس .. ولكن كانت هى ذاتها التي رآها فارس أثناء ذلك الحادث .. فاقترب أكثر وهو يقول بصوت يملأه الخوف .. وبعض من الإعياء: مين هناك؟!
ولكن لم يجبه أحد .. وكلما كان يقترب خطوة، كانت تبتعد هى .. ولكن فجأة إذا بقوى غريبة تجذب فارس، ليفصله فقط بضع السنتيمترات القليله عنها .. في هذه اللحظة، كاد قلب فارس أن يسقط في قدميه، من هول ما رأى، فكأنه يعرف تلك المرأه جيداً .. ولم يصدق الشئ الذي رآه ولكن فجأة وبغير سابق إنذار اختفت تلك المرأة، كأنها لم تكن .. في هذه اللحظة، قال فارس بصوت مسموع: ليلي؟ .. ووقف جامداً في مكانه من هول ما رأى .. لا يستطيع الحراك .. وإن نظرت إليه في تلك اللحظة لرأيت عيناه كادتا تسقطان من محجرهما.
وفجأة .. شعر فارس بيد تمسك قميصه من الخلف .. فكادت الدماء تتجمد في عروقه ويقع مغشياً عليه .. فاستدار بشئ من الخوف والحذر .. فتفاجأ بصديقه خالد يقول له: إيه اللي خرجك من الأوضه يا فارس؟ مش هتبطل تخضني عليك كدة؟
كان فارس ينظر إلى خالد .. وعلامات الخوف والذهول لا زلت تملأ وجهه الشاحب .. فلم ينطق بكلمة سوى أنه وضع يده علي كتف صديقه، ليعودا إلى الغرفة.
ازداد قلق خالد على صديقه .. فلم يكن بوسعه فعل شئ أخذ خالد بيد فارس .. وأجلسه على سريره .. ثم أعطاه قرصاً من المنوم .. وجلس بجانبه لحين تأكده أنه غط في النوم .. ذهب خالد .. وجلس علي الأريكة وأسند برأسه إلى الحائط .. وأخذ ينظر إلى صديقه التي ساءت حالته عن ذي قبل .. وبعدها أقسم انه لن يتركه لحين تحسن حالته.
بدأ الظلام في الاختفاء .. ليكشف عن صباح يوم جديد وخالد لازال مستيقظاً .. وها هو فارس يفتح عينيه .. وينظر إلى خالد قائلاً: يعني صاحي بدري يا خالد!
خالد: أنا منمتش أصلاً يا فارس .. كنت قلقان عليك.
وفجأة .. قطع حديثهما صوت طرقات الباب .. فزع فارس لأجل سماعه صوت تلك الطرقات .. ولكن أسرع خالد ليرى من هناك .. فوجد الطبيب وممرضته، يقفان خلف الباب .. فابتسم الطبيب قائلاً: صباح الخير يا أستاذ فارس .. أتمنى
إنك تكون بقيت أحسن من امبارح.
فارس كأن قلبه رُد إليه: صباح النور يا دكتور .. أنا بقيت كويس.
الطبيب: على العموم انت تقدر تخرج النهارده .. بس لازم تاخد الأدويه في ميعادها علشان ميحصلش مضاعفات.
فرد خالد مقاطعاً: متقلقش يا دكتور .. أنا مش هسيبه، وهكون مسئول عن مواعيد الدوا، لأني عارف فارس كويس وعمره ما هياخد حاجة.
ثم أعطى الطبيب خالد، روشتة، بها الدواء ورحل .. ولكن فارس كان مستاءاً جداً لأمر صديقه الذي عانى معه كثيراَ.
أخذ الصديقان بعضهما ورحلوا عن ذلك المشفى . ليعودا إلى المنزل،،،
كان فارس نائماً طول الطريق .. بل دعونا نقول، كان مبتعداً قليلاً عن عالمه المرير .. بينما كان خالد، يفكر طيلة الوقت في أمر صديقه فارس، فاهتدى أخيراً إلى أن ينصح فارس بالذهاب إلى طبيب نفسي .. ولكن لم يكن عنده الجرأه الكافية لقول مثل هذا الكلام لفارس .. لكي لا يجرح مشاعره .. وها هم أخيراً، قد وصلوا إلى المنزل.
وما أن رأى خالد الأريكة .. استلقى بجسده كله عليها .. فقد كانت ليلة البارحة متعبة حقاً .. وطلب من فارس أن يستريح هو الآخر ولكن أبى فارس، وأخبره بأنه سيذهب إلى حديقة المنزل قليلاً، لعل رائحة الأزهار تطيب قلبه.
أعد فارس قهوته وذهب إلى الحديقة .. وأخذ يفكر فيما رآه ليلة الأمس .. هل كان ما رآه مجرد هواجس؟! أم أنه قد جن؟! .. فيستحيل أن ما رآه ليلة البارحة حقيقياً .. قطعاً ليس كذلك!
فجأة .. وإذا بتلك الأفكار تدور بعقله .. إذا به يسمع صوت موسيقى غريبة لا يعرف مصدرها .. وعندما رفع رأسه، وأخذ يدور بناظريه هنا وهناك .. وللحظات كاد قلبه يتوقف من هول ما رأى .. فاذا به يلمح تلك السيدة تقف عند بوابة منزله.