رواية «فارس» – بقلم أسماء خلف
الفصل الأول
هناك من يقولون أن العالم السفلي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعالمناً .. وهناك من لايؤمن بذلك .. ولكن هل يعقل أن يتحول النور إلى ظلام أبدي؟
هل فعلاً كل ما يدور حولنا حقيقه.. أم مجرد هواجس؟
وماذا لو تحولت الهواجس إلى حقائق؟
كل الحقائق نسبيه ولا توجد حقيقة مطلقة .. وإن ثبت عكس ذلك.
كل منا يري الأشياء من زاويته .. حتى الخرافات يمكن أن تتحول إلى معتقدات .. إذا انتشر الجهل.
ماذا لو اتضح لك، أن كل الحقائق في حياتك مجردة من الحقيقة؟!
هذا ليس كلامي، بل هى مجرد خواطر، دارت في عقل «فارس»، في تلك الليلة بعد قراءته لذلك الكتاب، فقد شعر بأنه هو من كتب ذلك، بل شعر أنه هو من عاش تلك الأحداث، فلم يجد تفسيراً لذلك الشعور الذي كان يعتريه، سوي أن يبعد تلك الافكار عن رأسه.
فارس .. ذلك الشاب العشريني، الذي عاش حياة صعبة، فقد توفي والده قبل ولادته، وعاش في أحضان والدته، حتي شاء القدر وذهبت هى الأخرى .. لينتقل فارس بعد ذلك للعيش في منزلهم القديم، الذي لم يزره منذ زمن بعيد، والذي لا يذكر حتى زواياه .. كان في الخامسة من عمره، حين انتقلوا فلم تطق والدته العيش في ذلك المنزل.
لذلك تركوه .. ولم يعدلوا وجهتهم عليه مرة أخرى .. وبعد أن استقر فارس في ذلك المنزل، عرض عليه صديق والده العمل معه في الجريدة، فوافق فارس علي الفور، ولاسيما أنه كان يعشق التصوير، فعمل هناك كمصور.
مر الوقت .. وحالة فارس النفسيه تسوء يوماً بعد يوم، لدرجة أن رئيس التحرير كان مستاءاً جداً من فارس، لأنه لا يقوم بالعمل المطلوب منه، بالإضافة إلى حالة الشرود التي كان فيها .. فاستدعاه، وأخذ يحدثه باللين وأحياناً ببعض من الغلظة في الكلام .. وأخيراً طلب منه أن يذهب إلى أرشيف الجريدة، لياخذ بعضاً من الجرائد القديمة، ويدرسها جيداً، وكلفه بأن ينتقي بعضاً من تلك المواقع الموجودة في صور الجرائد، ويذهب لتصويرها.
بالفعل .. ذهب فارس إلى الأرشيف، ولكن لم يجد أحد، فانتقى بعضاً من تلك الجرائد، وعاد إلى منزله، ووضع كل تلك الجرائد علي مكتبه، وأعد قهوته، وبدأ بالعمل .. ولكن غلبه النعاس، ليرى في منامه حلماً غريباً.
رأي قرية تنشب فيها النيران .. ويعم فيها الخراب…
رأي الأطفال الرضع كهولاً، يفيض الشيب من رأسهم.
رأي الأرض ملطخة بالدماء، والجثث هنا وهناك.
ولكن أكثر شيئ كان ملفتاً، هو ذلك الرجل الذي اقترب من بئر قديم، وألقى فيه شيئاً ثم رحل.
فاقترب فارس من ذلك البئر، ليسمع أصواتاً تأتي من قاعه، كصوت الاستغاثة.
وفي تلك اللحظة .. عندما اقترب فارس أكثر من ذلك البئر .. أفاق من نومه مذعوراً .. أو دعونا نقل من كابوسه المرعب.
وعندما أدرك أنه مجرد حلم .. عاد لاستكمال عمله .. وأخذ في تذكر كل تلك اللحظات مع والدته .. وأخذته ذاكرته إلى ذلك اليوم الذي رأى فيه والدته في مشرحة المشفى .. فبدأ في البكاء .. ولكن سرعان ما حاول أن يبعد كل تلك الذكريات المؤلمه عن باله، وهو يقول في قراره نفسه، “جرى إيه يا فارس، مش هتبطل التخاريف دي؟ معقوله موت أمك يعمل فيك كدة؟ ويخليك تايه بالشكل ده؟ إنسى يا فارس إنسى”.
وأثناء حديثه مع نفسه .. إذا به يسمع صوتاً يأتي من قبو منزله .. فأسرع يرى ماذا هناك .. كانت خطواته تتثاقل عليه، وعندما وصل إلى الأسفل .. لم يجد شيئاً .. فظن أنها مجرد قطة تعبث .. فقرر الصعود من حيث أتى.
ولكن .. وهو في طريقه للأعلى .. لفت انتباهه ذلك الجدار الذي كان غريباً حقاً .. فقد كان مختلفاً عن باقي جدران المنزل .. فاخذ يتفقده وبمجرد لمسه .. تحرك ذلك الجدار لتظهر خلفه حجرة صغيرة .. يعلوها التراب ويكسوها خيط العنكبوت .. تفاجأ فارس لأمر تلك الغرفة التي لم يسبق له أن رآها أو حتى علم بوجودها من قبل.
كانت تبدو للوهلة الأولى كأية غرفة عادية .. ولكن عندما دخلها .. وجد علي جدرانها بعض النقوش الغريبة، وبعض الكتب تصطف في زاوية من زواياها .. وعندما اقترب وجد قلادة موضوعه فوق الكتب .. فتناولها فارس هى وذلك الكتاب الذي كان أسفلها.
فتح فارس تلك القلادة .. ليجد بعض الحروف المحفورة عليها .. كانت تلك الحروف بلغة غريبة .. لم يجد فارس لذلك تفسيراً سوى أن والده كان يتخذ من تلك الغرفة خلوة له.
صعد فارس لغرفته .. ولكن لم يكن يعلم لماذا أخذ ذلك الكتاب بالأخص .. فهو لم يولع بالقراءة يوماً .. فماذا إذا كان ذلك الكتاب مكتوباً بلغة غريبة لا يفهمها؟!
وضع فارس ذلك الكتاب جانباً .. وأخذ يكمل عمله .. ولكن في أثناء اطلاعه علي تلك الجرائد .. وجد شيئاً لا يصدقه عقل.. فقد رأي فارس صوراً لذلك البئر الذي سبق له رؤيته في حلمه .. بل رأي أيضاً بقايا لبعض المنازل التي اشتعلت فيها النيران!
جن جنون فارس .. وظن بنفسه الظنون، لهول ما رأى .. وأخذ يقول في نفسه، “أنا مش قولتلك يا فارس انك اتجننت خلاص؟ موت والدتك أثر على عقلك، اهدى يا فارس، كل ده هلاوس وتهيؤات، أكيد انت لسه بتحلم .. أيوه أكيد”.
أسرع فارس إلى سريره .. وتناول قرصاً من المنوم .. وغط في نوم عميق .. لم يستيقظ منه سوى في الغد.
أعد فارس قهوته .. وأخذ يتفقد تلك الجرائد مرة أخرى، ظناً منه أنه يحلم .. ولكن هيهات .. فإذا بالصور ذاتها موجودة في تلك الجرائد.
حاول فارس أن يهدئ من روعه، وقرر أن يذهب إلى صديقه خالد، الذي يعمل معه في الجريدة، وطالما وقف بجانبه، لعله يجد تفسيراً لذلك .. ولكن وهو في طريقه لمنزل صديقه .. إذا به يجد السير متوقف .. فنزل من سيارته ليرى ماذا هناك .. ليجد حادثاً مروعاً على الطريق، ضحيته شاباً في العشرين من عمره .. وإذا به يقترب أكثر ليرى صورته في ذلك الشاب الغارق في دمائه!
تجمدت الدماء في عروق فارس .. فأسرع الي سيارته واتخذ اتجاهاً معاكساً ليصل إلى منزل صديقه.
رن فارس جرس الباب .. وبمجرد أن فتح خالد الباب، ليجد فارس في حالة غير حالته .. فيسرع في إدخاله، قائلاَ: مالك يا فارس؟ إيه اللي حصلك؟ فيك إيه؟!
فارس: مش عارف أقولك إيه يا خالد.
خالد: طمني عليك وقول مالك.
فارس: أنا شكلي اتجننت يا خالد .. أنا بشوف حاجات غريبة.
خالد مذهولاً: إزاي؟! بتشوف إيه؟
فارس: مش عارف هتصدقني ولا لاء .. بس هحكيلك يمكن نلاقي تفسير.
أخذ فارس يقص ما رآه علي خالد .. ذلك البئر .. وتلك الغرفه .. وذلك الحادث، وكيف أنه رأى نفسه مكان ذلك الشاب.
وخالد يسمع في ذهول .. لم يكن يعلم أفعلاً ما رآه فارس حقيقياً أم أنها مجرد هواجس .. ولكن لم يفصح عن مشاعره تلك لفارس، فقال له محاولاً تهدئته: طبيعي يا فارس إننا نشوف حاجات، نحس إننا شوفناها قبل كدة.
رد فارس معترضاً علي كلام خالد: لا قولها يا خالد .. أنا اتجننت .. أنا فعلاً بشوف الحاجات دي يا خالد.
خالد: لا يا فارس .. انت متجننتش ولا حاجة .. ده توتر وضغط من الشغل .. انت لازم تاخد أجازه تستريح.
اقترح خالد علي فارس، أن يقيم معه لبعض الوقت .. لحين تحسن حالته .. لكن أبى فارس، معقباً على كلامه، أنه سيكون علي ما يرام.
وبعد حديث طويل .. قرر خالد أن يقيم الليلة عند فارس في منزله .. فوافق فارس بعد عناء من خالد.
وهما في طريقهما .. كان فارس على غير عادته، يهذي ببعض الكلمات وأجهش بالبكاء .. وأخذ يحكي لخالد عن تلك الليله المشئومه، وكيف فقد والدته في هذا الحادث اللعين .. (حيث أنها كانت ذاهبة عند فارس في عمله، لتخبره شيئا ما) .. وكيف أنها توفيت وهي منزعجه منه، فلم تسنح له فرصة الاعتذار لها عما بدر منه صباح تلك الليلة.