امرأة ولكن
قصة قصيرة
ذات يقظة، تتململ في فراشها، ألم يضرب رأسها ؛ فتهزها ليتناثر شعرها المعقود على كتفيها، تفرك عينيها وتحملق بنظرات كأنها حمم بلون الدم القان، تتحسس الهواء حولها وكأن ضبابية تغشى عينيها.
تقترب منها ابنتها ؛ لتمسك يدها فقد أطبقت بيديها على عنقها، تصرخ ابنتها وتنادي بصوت مرتعب قائلة :
النجدة ياعلاء علاااااء…
يدخل شاب ثلاثيني طويل بشرته بيضاء، تزينها لحية مشذبة وجه شاحب وأنفاس متقطعة، يفك يديها عن رقبتها لتغرس ابنتها إبرة مخدرة في ذراعها ؛فتتهاوى على الفراش
شاخصة البصر ودمعة عالقة على خديها.
هكذا صارت حياتها بعد شهرين تقريبا من سفر زوجها.
عرضها ابنها وابنتها على أطباء كثر ولكن دون جدوى، تنام بالمخدر ثم تصحو فجأة، تقطع شعرها ووجهها وتصرخ قائلة: انقذوني سيقتلونني…
في هدأة المخدر، تراقب البنت خلجات وجهها يبدو عليه الجد، تذهب الزوجة بعيدا تتذكر زوجها ولقاءهما الأخير. هاهو المشهد يقفز أمامها.
تتوسطهم مائدة زاخرة بالطعام، مرت سنوات لم يجتمعا وهاهما يلتقيان بعد أن دبت نار الخلاف بينهما فصار الحب الذي جمعهما هشيما لاكته نار خياناته المتكررة، ووسط أمواج الحيرة المتلاطمة، مد وجزر لعلاقتهما التي تآكلت كما يأكل الصدأ الحديد.
وجوم يحلق بأجنحته وسكون يعتري وجوههم،
هي بأناقة مفرطة وكأنها ذاهبة لحفل عشاء ، بشعرها الفاحم القصير الذي بدأ المشيب يلقي بظله الثلجي عليه، فيظهر عندما يموج كلما حركت هذه القامة الشماء يتوسط جيدها سلسلة من الذهب، تحتضن ماسة صغيرة لامعة.
على رأس المائدة المقابل، هوبشعره الأشيب ووسامنه الشديدة رجل خمسيني خمري اللون ذو ملامح مصرية خالصة يرتدي بدلته الفاخرة، لا تسمع إلا اصطكاك المعالق في الأطباق الشبه فارغة رغم وفرة الطعام، بضعة أمتار تفصلهما وكأن كل منهما في قطب من أقطاب الكون.
لقاء بارد، لا تشعر فيه بحميمية ودفء إلا في معانقة الشفاه للطعام وهي تستقبله برتابة ليضمه اللسان بين دفتيه فيلقى إلى مثواه الأخير. يراقبها بتمعن،أما هي فلا تعيره اهتماما، فقد مضى وقت مذ تحررت من قبضة حبه استطاع أن يملأ نهر الحب الذي كانت تسقيه منه إلى نهر من نار الغيرة التى أكلت قلبها.
أصر أن تبقى في هذا البيت مع ولديها.
بعد أن عزمت على أن يفترق الجسدان وإن بقي الشكل أمام الناس.
في لحظة تلاقت النظرات ثم توقفت هنيهة ليدق القلب الذي وأد حبا لم يتوقع أحد أن تكون هذه نهايته، يشعر بحسرة شديدة فرغم أعداد النساء اللائي عرفهن إلا أن زوجته الوحيدة التي ملكت قلبه وشعر في حضنها بالأمان. ولكن لا فائدة فقد رفضت وبشدة أن تضمها ذراعيه مرة أخرى.
يدلف كلاهما إلى حجرته. هو يجلس على كرسي في حجرة مكتبه، يحملق في هذه الثريا التي تتدلى فوق رأسه وتعكس أنوارها على سقف الحجرة، صمت يخيم على هذا البيت الذي كان يضج بالحياة، وفي لحظة، تداعت أركانه نخر فيها السوس تحول إلى بيت مسكون بأشباح زوج قد اعتاد أن يحيا لنفسه وماهو إلى خزينة للنقود، وزوجة حاولت كثيرا جعل الدفء يدب في أواصر علاقة قد تجمدت أوردة الحياة فيها.
عكفت على تربية زهرتبن كانتا ثمرة هذه الزيجة، فقد كان أملها في الحياة أن تتزوج بمن تحب ولكن يبدو أن الحب وحده لايكفي وخاصة للرجل فهناك حسابات أخرى لبعضهم، لا يكفيه امرأة جميلة وبيت دافئ وأولاد كالزهور.
ولكن بعضهم يتخيل أنه بما يملك من مال وجاه يمكن أن يعيش كما يريد بتنقل كالفراشة من زهرة لأخرى، فهو قد أدمن رحيق النساء ومبدأه امرأة واحدة لا تكفي. وقد كان منهم بل كان يعتبر نفسهم الملك بين مجموعة صعاليك، عاش لنفسه، بعد أن اطمأن أن جوهرته التي سعى للحصول عليها قد صارت أم أولاده ملك يمينه.
حاولت أن تمنحه الحب والإهتمام فكان يسكن حينا ولكن مايلبث أن ينفض عنه هذا التعلق بها ويتمرغ في شهواته التي صارت مع الكبر نزوات، الا أن ملت من تمثيل ذلك الدور وغسل آثار غيرها العالقة بملابسه بدموعها. وخاصة بعد أن كبر ولديها واتخذ كل منهما طريقه في الحياة بصحبة من تزوج.
تتذكر كل نزواته بأشكال نسائه العديدين وكل منهن تترك لها تذكارا لتخبرها أنها أخذت من زوجها نصيبا.
ولكن أين هو الآن؟! بعد أن سافر إلى الصين من أجل بعض الأعمال. انقطعت كل اتصالاته.
مر عامان لم يعثرا على أثر له بل إن شركاؤه قالوا أنهم لم يقابلوه حتى إدارة المطار عندما سأل محاميه قررت أنه لم يسافر وأن جواز سفره لم يختم من السلطات.
بحثوا كثيرا ثم اعتبروه مفقودا.
وهاهي زوجته التي أصرت أن تنقل غرفة نومها إلى غرفة مكتبته. رغم أنها ليست من هواة القراءة وباتت ليلة سفره فيها بعد أن تناولا الطعام
تعبت لجنة البحث الجنائى في البحث عنه، وقد حامت الشكوك حول زوجته لما بينهما من خلاف لا ينفض. ولكن إن كانت قتلته أين الوجدو لم يعثر لها على أثر وبعد أن احتجزتها النيابة أطلقت سراحها.
ظنت الزوجة أن الحياة طابت لها بعد أن ناب ابنها عن والده في إدارة أعماله وأبطلت خطة زواجه التي أراد أن يسافر من أجلها ولم يعلم عنها إلا هي من إحدى رسائله لحبيبته على الفيس بوك.مرت الأيام إلا أن ظهرت عليها بعض الأفعال الغريبة، حتى أن الخدم قرروا هجر البيت لما كانوا يسمعونه ليلا من صراخ وعويل أصوات ليست بشرية كانت تنبعث من غرفة نومها.
في هذه الآونة بدأت تنتاب الزوجة نوبات هياج وصراخ وترك الخدم البيت لأنها لم تقتصر على الأصوات بل كانت تنبعث رائحة غريبة من الحجرة، ولم يكن يستطع أحد فتحها وكأن ماردا من الجان قام بغلقها وبعد ساعتين يفتح الباب وهي ملقاة على الأرض تغرغر وقد تلون وجهها وأطرافها بالزرقة.
جلبوا العرافين والمشايخ ولكنهم قالوا :
أن هناك شئ خارق للطبيعة وأنه مرتبطا بالزوجة ولابد أن تتكلم حتى يستطيعون علاجها. ولكن كيف؟! و فمها مغلق لا تستطيع فتحه
إلا أن جاء أحد الشيوخ وبدأ القراءة فاهتزت الجدران وتطايرت الكتب وبدأت المرأة تتمايل بشدة وكأن أحد يرجها فتهتز وتدور فيم يشبه العاصفة
ثم سقطت أرضا وبعد أنا أفاقت قليلا بدأت تتحدث قائلة :سأتحدث، سأقول كل شئ فالموت أهون من هذا العذاب ؛ نعم قتلته
فقد قتلني ألف مرة. كنت أعرف أنه مسافرا للزواج ومع ذلك بعد العشاء هممت لأدخل غرفتي فوجدته خلفي ثم أخذني من يدي لحجرة مكتبه و أخذ يبثني حبه وأنه لن يخونني مرة أخرى وطلب مني أن أعود إليه وألا أفارقه فأظهرت له صورته مع عشيقته الأخيرة فاضطرب ليرتطم بالكرسي فتشج رأسه من الخلف، ظننت أن قد مات بعد أن وقفت طويلا وهو ممدد دون حراك، ولكنه أفاق فضربته بتمثال من النحاس فوق رأسه فسقط على الأرض مغشيا عليه،ثم جررته من قدميه وألقيته في هذا البهو الأرضي الذي لم يكن يعرفه أحد سوى أنا وهو، ثم قامت تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى المكتبة وما أن أزاحت جزءا منها حتى فوجئوا بباب سحري تحت الأرض يوصل إلى مكان ما.
أبلغ ابنها الشرطة ليجدوا جثة الأب، والغريب أنه لم يقتل كما ادعت زوجته فالمعمل الجنائي أثبت أنه مات بهبوط بالدورة الدموية وليس هناك شبهة جنائية في موته فقرروا ايداع الزوجة أحدالمصحات لبيان مدى سلامتها العقلية.
في أحد الليالي وجدت الزوجة ملقاة بجوار جدار في الغرفة النزيلة بها في المصحة العقلية، قد فارقت الحياة لهبوط في دورتها الدموية بعد أن حفرت بأظافرها على الحائط كلمة (استركنين) بالبحث عن مغزى هذه الكلمة وجدت الشرطة أنها مادة تستخدم لقتل الكلاب الضالة وإذا استنشقها الإنسان يموت مختنقا بسمها دون ظهور شئ في الصفة التشريحية، فهي تسب هبوطا في الدورة الدموية دون ظهور لآثار هذا الغاز السام والغريب أن على صدر الزوجة وردة جورية حمراء وجدوا بها أثار استركنين
تمت
حنان الهواري