تميل الثقافة السياسية لبعض الطبقات الحاكمة ؛ رأسماليين أو عسكريين فى بعض المجتمعات ، إلى استخدام الإعلام وسيلة لترويج صورة عن رئيس ما ، يريدون فرضه كمجنون أو طائش ، أو رجل الأفعال غير المتوقعة unpredictable ليبرروا لممثلهم الجديد أعمالا خارجة على المألوف ، هى من صميم مصالحهم وخططهم فى السيطرة والتوسع ، كما فعلوا ويفعلوا فى تقديم الرئيس ” دونالد ترامب” هذه الأيام ، وهى تختاره رجلا نادرا شاذ السلوك والتاريخ ، غير مألوف من قبل فى المجتمع ، وتترك له أسلوب تعبيره عن ذلك لعمل الإيحاءات الضرورية بأنه لا يمكن التنبؤ بأفعاله ، وتمرير ما يريدونه بسرعة . بذلك يكسبون به فئات جديدة كانت صعبة المنال مثل كسب ” ترامب” “للعمال” غير المتوقع من رأسمالى مثله ، أو الإيحاء بالوطنية – أمريكا أولا – أو تيسير الهجوم على الآخرين فى المجتمع أو السوق العالمية . !
هو إذن يقلب الموازين السائدة حتى تستقر المصالح المقصودة داخليا وخارجيا ، ثم يقوم صناع الصورة بقلبها على أى وجه آخر ، يقول أن السيد يراجع نفسه ويهدئ سلوكه ويدير المصالح بشكل مقبول ، بل ويتخلص بعنف أو بهدوء ممن كانوا وراء الصورة الأولى …
وقبل أن نحيل إلى عدد من الحالات الشبيهة فى التاريخ القديم أو الحديث ، نؤكد أن هذا الحاكم المشار إليه ليس مجنونا بأى حال ، وهو كائن ناجح أساسا فى عمله ، وأقوى الحالات ” هى ترامب ” نفسه ، كما ان معظم من سنذكرهم بدون تفاصيل استطاعوا ” الحكم ” لسنوات طويلة ، وتحكموا فى جيوش ، وطبقات اقتصادية واجتماعية من كل مستوى حسب المصالح الحاكمة الرئيسية ، ولا يعقل أن يستطيع ذلك مجنون ؟ بل إنى لاحظت أن معظمهم لم يسقطوا مثلا بانقلاب من الفئات العسكرية التى كونوها ولا برفض ديمقراطى ، وانما بحالة سخط شعبى عارم أو مخطط …
الحالات القريبة للأذهان أمثال الحاكم بأمر الله ( العزيز بالله الفاطمى – القرن 11) حكم لربع قرن بدأ كمجنون ثم صفى منافسيه ، وبنى دار الحكمة ليكسب رجال الدين ، وأرضى بعض حوائج الناس فى معيشتهم ..الخ وبدأ بناءه لمصر ضد العباسيين كوطنى توحيدى غيور ( ورثته الدرزية ) . ، وعيدى أمين صفى الأسيويين ليخلى السوق لطبقته ، وأقام الجيش على استفزاز الجوار ، وركب حافلة يجرها الانجليز تأكيدا للوطنية . ومثل ذلك فعل الرئيس ” باندا” فى مالاوى ، “وتسيرانانا” فى مدغشقر ، و”بوكاسا” فى إفريقيا الوسطى …والحالة الصعبة التى واجهتنا هى الرئيس معمر القذافى ، الذى تعددت أنماطه فى السيطرة وعدم التوقع ،كما تعددت أساليب سيطرته ، كعاقل خبيث ، بالجيش، والقبلية والجهوية ، والمال ، والقومية عربية او افريقية ، ومع ذلك كان ينتقل من حال إلى حال دون الإضرار بموقعه حتى تضخمت أطماعه ،من بيروت الي الصحراء الغربية والإتحاد الإفريقى بما كان يضبط بهم مصالح كبيرة لليبيا …
بقى الرئيس “ترامب” الذى يحاول تمثيل المتهور أو غير المتوقع ، وهو الرجل الذى كون المليارات واختفي تاريخيا وراء العديد من المؤسسات الرأسمالية التى لا تبنى إلا بأكبر قدر من العقلانية .
هذا السيد بدأ بالهجوم الذى يبدو نزقا على الدول الحليفة والمستعمرة على السواء ، وهو يعتمد على لوبى يهودى رأسمالى عميق الجذور ، واخترق الخليج بالتهديد والوعيد ، ثم جاءهم كموحد الأديان الثلاث ( (الرياض / بيت لحم / الفاتيكان ) ثم دفعهم إلى بيع “هدومهم ” بتخصيص ما قيمته نصف قيمة صناديق حماية مستقبل الأجيال السعودية لتمويل الصناعات الحربية فى أمريكا ! وأعلن أخطر المبادئ الامبريالية ، أنه شريك فى ثروة بترول الخليج لآنه يحمى الأسر الحاكمة له ، ثم عليهم تحمل تكاليف الحماية . وهم جميعا فى سلة واحدة اسمها ” تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى ” دون ذكر العربى أو الاسلامى أو غيره الا عرضا لأنه يعرف أنه سيواصل مع إيران وغيرها ، وأنه يريد ما يسمى بالعالم الاسلامى فقط ، ليحكم به وسط آسيا كشوكة فى ظهر السوفييت ، وفى وجه الصين …وهو يتجاهل أى حديث جاد عن فلسطين ….أى أن “صفقة القرن “كانت اقتصادية وليست مجرد سياسية .. والهدف انقاذ الراسمالية المازومة بالمال والعسكرة……
هذا كله فى ظرف المائة يوم الأولى ..ثم يصدق البعض مقولة أنه حاكم المفاجآت أو الجنون .. .فمن فينا المجنون ..؟
حلمي شعراوي
29-5-2017