كنت قد صغت يوما هذا العنوان، فى نص لمؤتمرحزب التحالف الشعبى القادم، وأريد هنا أن أزيده إيضاحا ومطلبية …! فأنا لا أقصد مجرد “حرية الثقافة” او “التحرر الثقافى”، فالثقافة ليست فعلا تمارسه بحرية أم لا، انما هى اسلوب حياة شعب واستراتيجيتة فى هذه الحياة. والتحرر الثقافى، ليس هو فقط إطلاق الطاقات لخلق الجديد فى الفضاء الثقافى، أو الحد من القديم، والتراثى …
تحرير الثقافة، فى تقديرى، هو مراجعة عناصرها الخلاقة فى مجتمعنا، تراثها الفكرى وفنونها، وابداعها المستمر. لأننا فى الواقع الغالب نعيش أشكالا عفا عليها الزمن دون مراجعة، وأنماطا تحتاج لطرحها للجدل الدائم، دون حساسية، أو صراعات غير ضرورية، وهذا الطرح مطلوب على المستوى السياسى والاجتماعى، وكافة مستويات التفكير والممارسة …
وتصبح هناك تساؤلات مهمة وأحيانا معقدة. هل نحن أمام إشكالية الأصالة والمعاصرة، لنقول اننا مع القديم، ونحاذر من الجديد دائما؟ هل نحن أمام الخوف من المتغيرات وبنفس القدر قلقين من حجم الثوابت؟ هل مؤسساتنا الفاعلة محل ثقتنا أم أنها تحتاج لتغيير الأدوار، والأشكال والمضامين؟
لابد ان يعنى “تحرير الثقافة” المرور على كل المسلمات لنبحث عن أدوار نخب عديدة بين المثقفين والحزبيين، ، وقوى الحركات الإجتماعية بين العمال والفلاحين والنساء والشباب، وكل مايسمى بالحركات الإجتماعية القديمة والحديثة أو النوعية ،فضلا عن عناصر المجتمع المدني المعروفة …الخ
تحرير الثقافة السياسية والإجتماعية مثلا، لابد أن سيبحث ويراجع مضمون “الوحده الكلية” للمجتمع أو مايسمى بهويته الضاغطة لاجل الوحدة الشاملة ازاء الحساسية المستمرة من فكرة التعدد، أو التنوع الثقافى فى الوحدة. بذلك يمكننا التخلص من عمليات الإقصاء المستمرة، داخل اللغم الفكرى المسمى مفهوم الأمة، ولنلاحظ أن أصحاب “الأمة” كثيرون فى مجتمعنا؛فالاسلام السياسي هو للامة ، والكنيسة لها شعبها بدورها وبين الاحزاب ، االوفد هو الأمة، والناصريون هم الأمة، ، والشيوعيون هم طليعة الأمة! هذا هو الموروث، والكل يمارس عملية الاقصاء للاخر بدرجات مختلفة ، ولابد اذن ان نحرر الثقافة السياسية من ذلك بنظرة جدية لعناصر الاندماج الوطني ، عبر الائتلافات والتحالفات والجبهات، وكلها بالجمع كما ترى، ولاتضير بناء الأمة ، بالتمييز الديني ،او الجنسي او غيره …
الأمر كذلك بالنسبة للمؤسسات المرتبطة “بتاريخ الأمة”، إلى أى حد نستمر في تأكيد فوقية مؤسسات مثل الأزهر والكنيسة على كافة مؤسسات التوعية والتوجيه ، او مايعرف بالاجهزة الايديولوجية للامة ازاء اعتبارات التطور، والتطوير، بحجة أنها المؤسسات التراثية للأمة، بينما هي في مجتمع مدني يفصل بين الدين والدولة انما تقوم علي واجبات التربية للشخصية المتوازنة ” لمواطنة” سليمة واخلاقية . ونحن لانشهد مثل هذه المؤسسات بهذة القوة فى معظم البلدان العربية والاسلامية من حولنا، ولا تعتبر أية هيئة دينية معبرة عن شعبها الخاص أو العام باسم تراث الأمة الذى هو متنوع ومتدرج التاريخ … وعليها تعميق الوعى به، لا التسلط به …
وبالمثل لابد أن يسلم الجميع بضرورة تحرير المجال العام من الثوابت الحامدة، وهو مجال يشمل السياسة والمجتمع المدنى، وقوى الإبداع. لكن المؤسف ان ثقافتنا السياسية بل والاجتماعية ظلت قادرة علي التماهي مع السلطة الايديولوجية الحاكمة لاطول الفترات دون قدرة من قبل سلطة التغيير الشعبية علي تجاوزها وصولا الي جماهير العمال او الفلاحين او الشباب .. الخ. وكان طبيعيا ان يبحث كل حزب عن النفوذ او الحضور وسط هذه التنظيمات المجتمعية ، لكن تصورى أيضا ان يخضع ذلك لفكرة الوحدة فى التنوع، أى ان يطلق العنان فى المجتمع لروح التنظيم فى كافة المجالات وبدعم من كافة الأحزاب في اتجاه اقامة التحالفات لان ذلك يخدم السياسى والمجتمعى على السواء …
وثمة ثمة ضرورة لبحث حالة الثقافة الطبقية، لأنها باتت تتجاوز التحليلات التقليدية ازاء التشويه الطبقى القائم . فثمة فوارق ملحوظه طبعا بين ثقافات وتراث ينتشر بين البرجوازية الصغيرة، وأخرى بين الطبقة الوسطى، وانظر الفارق مثلا بين تلقى “المسموع” والمكتوب لدى الطبقتين، أو الموقف من مسألة القبول “بالوضع الراهن” بين الطبقتين ، لنجد ان حجب تاثير مفاهيم ومسلمات الثقافة الوطنية ، أو سيادة روح تنظيم المجتمع المدنى كقوة مجتمعية ضاعف من عملية العزل و الاقصاء بين الفئات الشعبية المختلفة.
إنه من المؤسف الآن، أن نوعا من الطائفية الجامدة، وشرائح من أصحاب الفكر الدينى آخذة فى تجاوز كل مفاهيم التطور الثقافى المنشود أو تحرير الثقافة من “الاقصائية” .
ولننظر إلى دعوة “تجديد الخطاب الدينى” التى تكاد أن توجه لفئة دون أخرى بينما ننشد خطابا جديدا لتحرير الثقافة الكلى بل وتحرير الخطاب الدينى نفسه من جموده الذاتى..
اننا اذا احتكمنا هنا لمنطق العقلنة والتحديث ،فكيف نتصور معالجة رجال الدين حتي المخلصين منهم لمسائل واضحة في نصوص عن تكفير النصاري او عن الحسد والجن والغيبيات ..الخ ؟ كيف سنحد من فكرة دين عن اخر او تقديس الملل والنحل دون ان نملك منهجا جديدا لتظيم علاقة العبد بربه وترك المجتمع لامور دنيانا .. ؟ ومعني ذلك اننا لا يمكن ترك عملية التجديد او التغيير لرجال الدين وانما يمكن ذلك عبر قوي مدنية وشعبية عارفة بما تفعل……
اننا لسنا مجرد “أمه متدينة” ولكنا ايضا أمة مدنية حديثة منذ توافق الجميع على ذلك فى ثورة 1919 ولمدة فى أعقابها، لكنا فى نفس الوقت كثيرا مانلتزم بمعركة التحرر الوطنية”، متجاوزين متطلباتها من التحرر الثقافى إزاء قضايا الدين والمرأة، والقول بالاستبداد العادل… الخ! وإذا كنا نعود اليوم لمتطلبات التحرر الوطنى إزاء زحف التبعية الجارى، فإننا لابد أن نقرن ذلك بالموقف الاساسى للتحرر الثقافى، حتى نخلق قاعدة جديدة وحقيقية للتحرر الوطنى نفسه. بمعنى آخر القضية الآن هل دور الأحزاب والقوي المجتمعية قائم فى الثقافة الوطنية بروح تحريرها فعلا؟ ووفق أية مفاهيم، وما العلاقة بالحركة الثقافية والفكرية فى المجتمع، وتخليصها من الجمود .. لتحديد الهامش بين الكلى والجزئى فى مسألة الهوية. ؟