ها قد تطور بنا حكام العالم العربى، ليصبح «الاستبداد» صفة رحيمة ولو نسبياً لدولة غير دولة «الأمنوقراطية» Securacy السائدة الآن.
هكذا بدا تفسير د. “حيدر ابراهيم على” في كتابه عن «الامنوقراطية وتجديد الاستبداد في السودان» للفرق بين الاستبداد كظاهرة كاريزمية ترتبط بمزاج أو شخصية حاكم، متطور من البداوة أساساً تساعده بطانة، أو متمثلاً في جهاز ما فى تركيبة الدولة .. حتى تعقد الموقف فى هذا التركيب، بتكوين “جهاز الأمن” بديلاً لفرق “الجواسيس والبصاصين”..! ثم عقب ذلك ارتباط معنى جهاز الأمن بتحديث الدولة، وتقسيم العمل، فى ظل حاكم مرجعيته طبقته أو الجماعة القبلية أو الدينية أو العسكرية، حتى تحدث البعض رغم ذلك عن “المستبد العادل” … إلخ، ودفع آخرون إلى القول بوجوب “وجود الحاكم” للجماعة أو الأمة وخاصة الإسلامية _ حتى لو كان ظالمًا _، فالإمام “الجائر خير من الفتنة”، واندثرت فى الثقافة الإسلامية وخاصة التقليدية، مدرسة فكرية كالمعتزلة، ممن لم يروا وجوبًا للإمامة أو الدولة أصلا.. “لأن وظيفتها منع التظالم وحمل الناس على العدل … فإذا كف الناس عن الظلم، وتناصفوا .. استغنوا عن الإمام …”. وهو الأمر الذى تطور فى فلسفات غربية لاحقة إلى فكرة “العقد الاجتماعى” .. ثم أنماط الديمقراطية، بينما تطورت البداوة العربية إلى “قدسية “الجماعة” و”الأمة”.. الفلسفة الأولى تعتمد الفرد ومبادىء الحرية والتعبير، والثانية تعتمد التحكم والأمن باسم الاستقرار والثبات.
في «دولة الاستبداد» يقوم جهاز الأمن بمساعدة بقية أجهزة الدولة بمختلف أشكالها حتى الفاشية والعسكرتارية والحزب الواحد … إلخ، ويصبح وضعه بذلك طبيعيًا محكومًا بقوة الدستور أو الإعلام.
لكن فى حالة «دولة الأمنوقراطية» يختلف الوضع تماما .. يصبح «جهاز الأمن» هو مصدر السلطات وليس حتى الشعب أو الرئيس، لأنه ليس مؤسسة متكاملة مع غيرها .. ويعرض د. حيدر لآراء تحدد أبعاد الدولة الأمنوقراطية .. فينتهي إلى مفهوم “القهر الناعم” .. الذي يستفيد أيضاً من فائض قيمة القهر فى الحقبة السابقة على هذا النظام أو ذاك.
القهر الناعم في دولة الأمنوقراطية يشيع الانطباع بأن الكل”أمنجية”، ويقوم على التشكيك المتبادل، وهدم الثقة بين الناس لتحقيق عدم التواصل والعزلة والخوف .. ويشيع الأمنوقراطيون أنهم جزء من قوى السياسة والمجتمع والحزبية، لأنهم لا يعتمدون على مجرد أفراد أمن مدربين كجهاز أمني، ولكنهم هنا جزء من البيروقراطية والمثقفين والصحفيين .. إلخ، وعناصر المجتمع المتعددة التى تلطف من معنى الديكتاتورية المباشر .. وقد أسس السادات مثلاً هذا المفهوم بما أطلقه عن “الانفتاح” والتعددية من جهة، وعن “رب العائلة” من جهة أخرى .. ومن هنا يصبح جهاز الأمن جزءًا من العملية السياسية الاجتماعية لتكتمل سلطته غير الشرعية فى جهاز أمنوقراطي فوق إرادة المجتمع السياسي .. ذلك لأن مجتمع الدولة السياسي يضعف تدريجيًا، لضعف قدرته على الحوار، ناهيك عن اختفاء آلية الديمقراطية .. ويصبح الجهاز الأمنوقراطي، هو البيروقراطية الدولتية الفعلية .. والقهر .. والاستقرار .. معًا.
هذا النمط وسيادته فى العالم العربي هو الذي يحقق الممانعه القوية لدى النظم العربية، لتصبح إحدى خصائصه وسط عالم تتحقق فيه أنماط الديمقراطية .. هنا تبقى النظم العربية استثناءً تاريخيًا يتحدث فيه البعض عن “ثبات عنصري” أو حالة من الفوات التاريخي، لا يلحق بالعالم .. لكن هذا غير صحيح أيضًا، لأن القائم أمامنا هو الركود المجتمعي والفكري، وافتقاد تفاعلات الحركة الفكرية والمجتمعية، فى الدول العربية منذ قرون مع الأفكار القادمة من مختلف أنحاء العالم جغرافيًا، أو حتى التي شهدها تاريخ الإسلام عقليا .. بينما نتحدث طول الوقت عن “التجديد الديني” والثورة.
يتحدث د. حيدر إبراهيم عن “النسب التاريخي” للاستبداد العربي despotism (بمعنى رب الأسرة أو سيد العبيد)، فيذهب به؛ من بعد البداوة إلى شبه الإقطاعية، وحاجة الإنسان للحماية مقابل الولاء المطلق .. بل ويذهب حيدر فى تحليلات موسعه إلى الحديث عن مرجعية الشعر عند العرب (وبالتالي الخطابية) بديلاً لمرجعية الفلسفة الإثينية.
ثم يكشف عن بعد هام آخر وهو غياب معنى الدولة والحكم فى التراث العربي اقتصاراً على البعد الأخلاقي لها أو الآداب السلطانية التى تبدو نصائح موجهة للحكام مثلما عند الماوردي، وغيره .. وكل ذلك بسبب “دينية السلطة” التى تضفي القداسة على الحاكم .. الخليفة .. بينما لم يقبل عمر بن الخطاب لقب “الخليفة” .. وإنما قال “أمير المؤمنين” حتى راح الأمويون والعباسيون يصلون بالخلافة إلى تمثيل الإله.
ويعرض كتاب حيدر لتساؤلات شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون .. وتقدم غيرهم؟ والذي لم تنفع في الإجابة عليه جهود مثل جهد “الكواكبي” الذي توفى 1902 مخلفًا لنا فكرًا رائدًا عن “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” .. وعنده “أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي، ودواءه هو دفعه بالشورى الدستورية ..”! وفى رأيه أن المستبد شديد الخوف بطبعه.
وينبه د. حيدر إلى عملية “تجديد الاستبداد” فى المجتمع العربي، منذ انقلاب العراق 1936 ثم تلته سوريا، ومصر، حتى ضباط جبهة التحرير الجزائرية .. وفي عرض مطول هنا ينبه إلى تواتر صور الاستبداد العسكري، كما أن ثمة تجديد لمعنى الاستبداد بدخول قوى الاستبداد المدنية الحديثة ممثلة في قوى اجتماعية معروفة (وقد فصل باحث متميز آخر مثل د. أحمد زايد، هذه القوى المجتمعية المستبدة وخاصة الدينية في كتابه عن صوت الإمام) .. وهنا يمكن العودة لبداية تعريف معنى الاستبداد الناعم، الذي يعتمد على القهر عبر خلق أجواء الهيمنة الجرامشية التي تصل لحد التراضي والقبول والصمت عند الجماهير نتيجة الخوف نفسه، والذي يقوم بنشره فئات وشخصيات ومنظمات في المجتمع خلال هندسة اجتماعية معينة .. وفي تقديرات عن حيدر، أن أشكال القهر الناعم هذه هى أقوى مهددات الديمقراطية، لأنها تُغيِّب الشعور بالمواطنه أمام ترسانه القوانين الاستثنائيه، والتي يحمل بعضها حتى الطابع الأخلاقي مثل “قانون العيب الساداتي 1971 فى مصر مستفيداً من نصائح فقه إسلامي قديم، وكذا نمط الزعامة القبلية مثل “عصا الراعي” فى يد حاكم عسكري …! بهذه الأساليب يصل الحاكم إلى فرض نظام كالنازية أو الفاشية مستغلاً ظروف قيامها فى المجتمع .. مما يحلله ويفسره مفكر مثل جاردودي في “الأصوليات المعاصرة” يقول: “لكن دهماوية هتلر وجدت آذاناً عند الجماهير، في مواجهة أحزاب سياسية بلا مشروع، تخوض معارك عقيمة للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها ..، مستفيداً من تعب الشعب من هذه السياسة الملهاة، ومن فساد الأحزاب”، وهنا تلعب الأمنوقراطية الدور الأساسي في هذه الظروف.
لا يكفي المجال هنا لعرض بقية كتاب حيدر إبراهيم، نكتفي بالجزء النظري، لنتحدث عن تحليله الموسع للأوضاع فى السودان، فى ضوء مفاهيمه عن الأمنوقراطية فى الجزء الثاني من الكتاب، ولذا نتوقف هنا بنقل إحدى فقرات الجزء الأول التي تقول: “رغم أن الأمنوقراطية هى نتاج فشل الدولة العسكرية الاستبدادية – التحديثية في نفس الوقت، إلا أنها تحاول استثمار فشل الحكم في تلك التجربة (العسكرية)، وما يعقب الإخفاق من قلق وتوتر، وتوجس، وصراع، لتعمل الأمنوقراطية على التحكم والسيطرة على كل تلك المظاهر .. والانتقال بهدوء، إلى مرحلة ما بعد الأزمة”…!