فزع الرئيس جوليوس نيريرى وشهرته (معلمو) يوما، قدمت له فيه لجنة من رابطة الشباب فى حزب الثورة الحاكم فى منتصف السبعينيات، وقبل ان ينسحب طوعا من الرئاسة أول الثمانينات، تقريرا يحتجون فيه على خطط التنمية التى تترك قطاع السياحة يشوه الاقتصاد القومى، ناهيك عن القيم والتشكيلة الاجتماعية، والإضرار بحالة الفقراء نتيجة المؤثرات الداخلية والخارجية على الاقتصاد والمجتمع على السواء … وكان الرجل يعرف وزن حركة الشباب عبر معسكر جامعة دار السلام الشهير الذى كانت مظاهراته تهز البلاد.
سارع باستدعاء لجنة على رأسها مفكر نعرفه هو “عيسى شيفجى” الذى ما زال يقاوم الليبرالية فى بلاده مثل سابق نقده لمناهج “الاشتراكية الإفريقية”.
أراد “عيسى” أن يبدأ خطة البحث، فوجد الشباب قد أعدوا له أكثر من ثلاثين تقريرا ومقابلة وعمودا صحفىا، وأخبارا متناثرة بما حاصره مبكرا، وأدار حولها مناظرة وطنية لمدة ثلاثة شهور لخصها فى تقديمه للكتاب، ونشر كل تقارير الشباب عن حالة البلاد فى كتاب له باسم “السياحة والتنمية الاشتراكية” أصدره عام 1975 !!
عندما وجدت الكتاب مؤخرا ومضيت فيه بشكل أو آخر، أثار شجونى بدوره، مثلما أثارالتنزانيين منذ أربعين عاما! وإن اختلفت أبعاد المشكلة قليلا أو كثيرا. ذلك أن ما أراه من لطم وندب على حال السياحة فى مصر، وإرجاع كل تعاساتنا وفقرنا إلى افتقاد وفود السياحة من هنا أو هنالك، يجعل المرء يلطم معهم على هزال التفكير حول عناصر التنمية فى بلادنا بما لا نجد معه باسا من تجاهل الصناعة والزراعة، والمشروعات الصغيرة، وتنويع التصدير وضبط الاستيراد، بما خلص إليه، ويمكن أن يخلص إليه الشباب فى كل البلاد.
ولكى لا أطيل .. أشير فقط إلى مثال قدمه، شباب تنزانيا عن دخل صناعة النسيج مع تطويرها المحدود، وكيف يعادل الدخل من السياحة، التى تهدد كل المصادر الانتاجية الأخرى وخاصة الصناعات وأنماط الإنتاج الصغير … الخ، بما لا يضيف للطاقة الإنتاجية للبلاد، بينما فى المقابل تيسر كل الأمور للسائح مأكلا ومشربا، ومشتريات سياحية لا معنى لها، وتنظيم نماذج فى العمران والفنادق والطرق، بما يفوق الصرف على أوجه التنمية الأخرى، ويفرض نمطا اقتصاديا غير منظم، ولا يصير العائد إلا فتاتا للفقراء … هذا مجمل فقط لما أثاره الكتاب من الجدل رغم غناه، بما للسياحة وما عليها .. لكن موقف الشباب رآها مشوهة للاقتصاد الوطنى بلا منازع.
تأملت واقعنا السياحى .. وماذا يمكن أن يكون ملفتا فيه، لو أخذنا بمثل هذا الموقف فى تحليل “المسألة السياحية”!
سأوجز تماما لمجرد لفت أنظار الرأى العام إلى أنه يجر مع رأسمالية طفيلية رخيصة إلى حالة الندب التى تخصهم وحدهم.
وأنا لست اقتصاديا، لكن قرأت ما يفيد أن قطاع السياحة رغم فائدته، ليس بهذه الأهمية فى اقتصاد تتوفر له مصادر أخرى لو سعينا إليها بدل المشروعات والنشاطات الطفيلية باسم السياحة .. كما فهمت أن الخسائر المعلن عنها ليست غير ممكنة التعويض من المنافذ الأخرى.
ويتراوح عدد السياح (المحتمل عدم تدقيقه بسبب كيفية التضليل البيروقراطي فيتعريف السائح و عد الليالي السياحية) في دائرة محددة حتي الان، فهي بين أزهى العصور (12مليون) عام (2010) ثم 9 ملايين سنة 2011، ثم 11 مليون سنة 2012، و8 مليون سنة 2013، و9مليون سنة 2015…! (السياح فى أسبانيا وباريس .. أكثر من 60 مليون سائح)، وحتى أرقامنا المذكورة لا تفيد كل هذه الحسرات .. إذ يتحرك العائد عندنا من السياحة بين 12 مليار دولار سنة 2010، و7 مليار عام 2014 .. فى مقابل ذلك اندرج 5 مليون شاب فى أعمال هامشية (قطاع غير رسمى)، ممن يفضلون العمل الفرط عن المؤسسى، والدليفري علي علي العمل الفني! وتبقى سياستنا التنموية سياحية فقط لأسباب كثيرة منها تحكم المصالح فى سيناء والصعيد او تبقى مناطق للفرجة مثل قرى الاوجاماعا في تنزانيا.
أنا لا أريد – ولست خبرة اقتصادية لتقديم دراسة – لكن من كل الأوراق خرجت بهذه الحقائق والتساؤلات: ما معنى كل هذا الاعتماد على السياحة ومشاريعها فى العمالة المهمشة للشباب والعائلات، والمناطق الاستراتيجية (سيناء والصعيد)، ونحن ندور لعشرات الأعوام حول عشرة مليارات دولار يمكن ان يوفرها أى مشروع مستقبلى جاد؟ (كتب د. ابراهيم العيسوي في كتابه الهام عن الاقتصاد المصري -2007- ان تحويلات المصريين كانت الاولي بين موارد النقد الاجنبي 1984-95 واصبح ترتيبها الثاني عند كتابته .. ولننظر كيف تفاخر اي حكومة بتكوين احتياطيها مما لا نعرف عنه الان الا ارقام الديون)
إن مجرد العناية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والاحترام، والكرامة لحوالى عشرة ملايين مصرى بالخارج، ممن حولوا لمصر عام 2016 حوالى 19 مليار دولار، وكانوا يحولون فى حدود 14-16 مليار قبل ذلك، ولسنوات، (حتى لا يربط البعض بين الرقم الكبير وتعويم الدولار).. كان ذلك كفيلا بتشجيع هؤلاء أكثر على التحويلات (النسبة الأكبر في التحويلات من المهاجرين الي أمريكا واستراليا وليس الي الخليج الوهابى، كما يظن البعض).. وماذا لو أوقفنا موجة “الإعمار” بوسائل إغراء أخرى ومعظم التحويلات تتجه إلى هذا القطاع المريب من استغلال الأرض وإفساد الذمم بالرشوة كشكل اقتصادى راسخ!
ان اهمال هذا العدد واسرهم وادارة مصالحهم، يؤدى إلى العزوف عن سلوك المواطنة الصالح، ناهيك عن التحويلات بحيث وجدنا انه لا يشترك فى التصويت فى اى انتخابات أكثر من 600 ألف مواطن بالخارج؟
لو أن وزيرة التخطيط فكرت معنا قليلا، وتحمل النظام مسئوليته بحق، بدل المعارك الوهمية ضد الحريات، والدعاية الانتخابية المبكرة، لاستطعنا أن نستجيب لبعض مطالب الشباب من النظام .. ويمكن للأستاذة الوزيرة أن تفكر أيضا فى ست مليارات جنيه يذهبون مع العمرة والحج بينما تتجه السعودية لمضاعفة الضريبة على التحويلات .. ولنلاحظ أن قلق الشباب هذه الأيام يمضى وحده بعيدا .. بما يذكرنا بإقلاق شباب دار السلام للرئيس “نيريرى” حتى انسحب بنفسه طوعا..!