كدتُ أن أذوبَ خجلاً وحزناً .. ضمن كثيرين ممن تشرفوا بالخدمة فى جيش مصر .. ونحن نرى ضابطاً سابقاً فيما يُسمى مجلس النواب، وعروقه تكاد تتفجر من الهتاف بسعودية الأرض المصرية فى تيران وصنافير .. ومعه جوقةٌ كاملةٌ من الضباط السابقين فى فرقة الإنشاد الساقط والمُخزى .. سيراً على النهج الذى بدأ منذ عامٍ بإعلان الرئيس (وهو عسكرىٌ سابقٌ أيضاً) خبر التنازل المشؤوم .. الفجيعة أن يُفَّرط عسكرىٌ فى الأرض .. إذ أن المهمة العليا والمحورية للجيش، التي تنبثق منها وتتصاغر إلى جوارها أي مهمة أخرى هي الحفاظ على الأرض حتى ولو كانت خلواً من السكان .. وهى المُسَوِّغ الوحيد لارتداء الزى العسكرى .. .ثم إن ما يحدث أسوأ من التفريط .. فالسقوط فى الوحل واردٌ .. أمَّا ما يفوق قدرتنا على التَخَّيُل فهو التلذذ بالتمرغ فيه .. إذ لم يحدث فى التاريخ الإنسانى (ولا الحيوانى) أن حدثت هذه الاستماتة من أجل إثبات ملكية أرضٍ لدولةٍ أخرى .. لا سيما وقد صار معروفاً عالمياً أن المستلم والمستفيد النهائى هو عدو مصر الاستراتيجى والأبدى .. تلك هى الفجيعة التى تفوقُ باقى التفاصيل والملابسات المخزية التي نعايشها مشدوهين ومدهوشين منذ ذلك التاريخ، من دهسٍ للدستور، وعبثٍ بالبناء القانونى والقضائى، وسحقٍ للشفافية، وبلطجةٍ رسميةٍ للفتك بدعاة التمسك بالأرض واتهامهم بالخيانة (لا أدرى خيانة مَنْ؟)، وتدليلٍ رسمىٍ لدعاة التفريط بدلاً من تجريسهم .. عندما كان البعض يبالغ في الثناء على موقف كاتب المقال فى فضح فساد صفقة عمر أفندى، كان يجيبُ بأن هذا تصرفٌ عادىٌ لا بطولة فيه بالنسبة لأى عسكرىٍ خدم في جيش مصر .. إذ أن المعادلة غير المكتوبة التى تَشَّرَبناها فى الجيش هى (إن كل ما هو مِلكُ الوطن غالٍ .. وإن حفنةً من تراب الوطن تساوى روحك) .. وأن موقفى فى مواجهة فساد الصفقة، كان أبسط كثيراً مما تَرَّبَينا عليه .. إذ كان ما دافعتُ عنه حوالى مليار جنيه من المال العام وليس مجرد حفنةٍ من التراب .. كما أن الثمن الذى دفعتُه يظل أقل كثيراً من التضحية بالروح.
قبل نحو نصف قرنٍ دارت إحدى المعارك التى تُلَّخِصُ تلك العقيدة التي تَرَّبَت عليها أجيالٌ كاملة.. معركة شدوان .. وهى جزيرةٌ صخريةٌ منعزلة صغيرةٌ (أصغر من تيران وأقل فى الأهمية الاستراتيجية منها) .. وتقع بالقرب من مدخل خليج السويس بالبحر الأحمر وعليها فنارٌ به بعض المدنيين لإرشاد السفن .. كان فى الجزيرة عددٌ قليلٌ من أفراد الصاعقة .. خططت إسرائيل للاستيلاء على الجزيرة المنعزلة صباح 21 يناير 1970 واستغلال ذلك دعائياً لكسر أنف المصريين الذين كانوا فى أوْج معارك الاستنزاف .. واصطحبوا معهم ممثلى وسائل الإعلام العالمية لكى ينقلوا للدنيا تفاصيل الانتصار السهل المتوقع للجيش الذى لا يُقهَر .. لم يكن هناك وجهٌ للمقارنة فى العدد والعتاد بين المُهاجِمين والمُدافعين .. فقد دَكَّ الطيران والبحرية الإسرايلية مواقع القوة الصغيرة لأكثر من أربع ساعات مع نداءات للاستسلام حيث لا فائدة من المقاومة .. ثم تم إنزال كتيبة مظلات إسرائيلية كاملة على شاطئ الجزيرة لأسْر من قد يكون بقى على قيد الحياة وإذاعة المؤتمر الصحفى العالمى.
الذى حدث أن السحر انقلب على الساحر .. وإليكم جزءاً من شهادة الصحفي الأمريكي جاي بوشينسكي الذي كان مصاحبا للقوات الإسرائيلية وأرسلها في برقيةٍ إلى وكالة أنباء يونايتد برس: (.. لقد شاهدتُ بطولاتٍ من المصريين لن أنساها ما حييت .. جندي مصري يقفز من خندقه ويحصد بمدفعه الرشاش قوةً من الإسرائيليين، وظل يضرب إلى أن نفدت آخر طلقة معه، ثم قُتِلَ بعد أن قَتَلَ وأصاب عدداً كبيراً .. كانت القوات الإسرائيلية تتلقى مساعدةً مستمرةً من طائرات الهليكوبتر، إلا أنها لم تكن تتقدم إلا ببطءٍ شديدٍ للغاية تحت وطأة المقاومة المصرية .. ولم يكن أى موقعٍ مصرىٍ يتوقف عن الضرب إلا عندما تنفد ذخيرته .. وحين نفدت ذخيرة أحد المواقع وكان به جنديان أسرهما الإسرائيليون ثم طلبوا من أحدهما أن يذهب إلى مبنى صغير قرب فنار الجزيرة ليقنع من فيه بالتسليم .. عاد الجندي المصري ليقول لهم إنه وجد المبنى خالياً .. وعلى الفور توجه إلى المبنى ضابط إسرائيلي ومعه عددٌ من الجنود، وماكادوا يدخلون حتى فوجئوا بالنيران تنهال عليهم من مدفعٍ رشاش يحمله ضابط مصري، وقد قُتِل الضابط الإسرائيلي وبعض الجنود الذين كانوا معه .. أما الضابط المصري فقد أصيب بعد أن تكاثر عليه الإسرائيليون .. وفي موقعٍ آخر خرج جنديان متظاهريْن بالتسليم، وحين تقدمت قوة إسرائيلية للقبض عليهما فوجئت بجندي مصري ثالث يبرز فجأة من الموقع بمدفعه الرشاش فيقتل 5 جنود ويصيب عدداً آخر) .. بعد 48 ساعة من المقاومة الضارية انسحبت القوات الإسرائيلية بعد أن وصلت خسائرها إلى 50 فرداً بين قتيلٍ ومصاب .. أما المتشبثون بالأرض فقد كانوا ثمانين مصرياً بين شهيدٍ ومصاب .. ولم يستسلم أحد.
لم يذكر الصحفى الأمريكى أسماء هؤلاء الأبطال .. ولم يهتموا هم بذلك .. كان همُّهُم التشبث بالأرض ولو فقدوا حياتهم .. مع أنهم كانوا شباباً .. ضباطاً وجنوداً .. متطوعين ومجندين .. مسلمين ومسيحيين .. لهم حاضرٌ وأمامهم مستقبلٌ .. لكنهم فضّلوا مصر .. فضّلونا على آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم الذين كانوا ينتظرونهم .. كانوا مصريين حقيقيين وعسكريين حقيقيين .. لم يسمعوا عن فالق فاروق الباز ولا وثائق قريش وخزاعة .. بالمناسبة، فقد كان قائد قوات منطقة البحر الأحمر التى يتبعها رجال شدوان هو اللواء سعد الشاذلى الذى تولى القيادة بعد واقعة الاستيلاء على الرادار .. كان مسؤولاً عن الوصول برجاله لأعلى درجات الاحتراف ووضع خطة لمقاومة تسللات القوات الإسرائيلية .. ولم يكن بحاجةٍ إلى أن يقول لهم إن الأرضَ عِرضٌ .. فتلك من البديهيات العسكرية وما عداها عِهْر .. لذلك يعجب المرءُ من هؤلاء العسكريين المُفَّرِطين ويتساءل فى أى جيشٍ نَشَأوا وتَرَّبَوْأ؟ .. أفهم أن يكون العسكرى لصاً أو شريفاً .. فاشلاً أو عبقرياً .. مستبداً أو ديمقراطياً .. لكن عقلى لا يستوعب أن (يحزق) لواءٌ سابقٌ مؤيداً للتفريط .. وأن يُفَّرِطَ رئيسٌ ذو خلفيةٍ عسكرية فى أرضٍ مصرية .. بل ويُشرف على التنكيل بمن ينادون بالتمسك بأرضهم .. ففى التاريخ العالمى، لم يحدث أن صدر أمر ضبطٍ وإحضارٍ لمواطنين بتهمة (التحريض) على التمسك بأرض بلادهم إلا من سلطة احتلال .. فعلها الاحتلال النازى لفرنسا بحق أفراد المقاومة الفرنسية .. وكررتها سلطة الاحتلال الانجليزى فى الهند بحق غاندى .. وفعلتها سلطة الاحتلال الانجليزى فى مصر بحق ثوار 1919 .. أمَّا أن تَتَّهِمَ دولةٌ مواطنيها بالتحريض على التمسك بأرضهم، فتلك أعجوبةٌ لم نسمع بها من قبل .. رَحِمَ الله أبطال شدوان، وسعد الشاذلى وإبراهيم الرفاعى ومحمد عبيد وعبد المنعم رياض وعبد الغنى الجمسى وإبراهيم عبد التواب وكلَّ شهدائنا وأبطالنا الذين أَفنَوْا حياتهم من أجل التشبث بالأرض .. ونحمد اللهَ أنهم ماتوا أو استشهدوا قبل أن يلحقوا بزمن (الرُز) وإلا لصَدَرَت بحقهم أوامر ضبطٍ وإحضار بنفس التهمة (التشبث بالأرض) فهى ثابتةٌ بحقهم وضُبِطُوا مُتلبسين بها قولاً وفعلاً.