امتازت مصر منذ القِدم باهتمام أهلها بالنقل ووسائله؛ نظراً لموقع مصر الرابط بين بين قارات العالم القديم؛ ووقوعها على بحرين المتوسط والأحمر، ومرور نهر النيل وفروعه في الوسط مما جعلهم من أسبق شعوب العالم معرفة بالملاحة.
وفي وقتنا الحالي يلعب النقل في مصر دوراً محورياً في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهو يُساهم بحوالى 26 مليار جنيه من الناتج المحلى، وتعتبر إيرادات النقل من الموارد الرئيسية في ميزان المدفوعات ويعد من مصادر العملة الصعبة ذات الأهمية للبلاد، بعد الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وإيرادات قطاع السياحة ورسوم عبور قناة السويس.
ولكن بعد تراجع إيرادات قطاع السياحة بسبب الوضع غير المستقر التي تمر به المنطقة عامة والتحديات التي توجهها مصر بين الفينة والأخرى على وجه الخصوص بسبب وقوع عدة عمليات إرهابية متفرقة تروج لها عدة قوى إقليمية إعلامياً لتقويض موقف مصر السياحي لصالح وجهات سياحية أخرى منافسة فإن الأمل في إستعادة التوازن الإقتصادي في مصر يقع على عاتق القطاع الصناعي من خلال جذب الاستثمارات المباشرة من جهة، وتنمية القطاع البحري وخاصة الموانئ والتي تعد العامل المساعد والمنشط لربط التجارة مع الإنتاج في منظومة متكاملة، وذلك من خلال جذب الخطوط الملاحية نحو المواني المصرية وإنشاء مناطق لوجيستية وصناعية بظهير المواني وتطوير تلك المواني بقدر يسمح لها بالفوز بأكبر قدر ممكن من حصة السفن والتجارة العالمية العابرة في المنطقة عبر البحار في ظل المنافسة الشرسة لمواني المنطقة الأخرى.
وفي هذا الإطار فإنه من الجدير بالذكر أن منظومة النقل البحري المصري تواجه عدداً من التحديات التي يجب الوقوف عليها أولاً ومعالجتها للوصول لأعلى المعدلات العالمية ومن ثم إكتساب القدرة على المنافسة في ظل ظهور عدد من المواني الجاذبة في المنطقة حيث لم يعد الموقع الجغرافي هو عامل الجذب الأوحد والأكبر في إختيار الخطوط الملاحية للموانئ وإنما يدخل في عوامل الجذب ارتفاع معدلات التداول في المواني مما يقلل من مدة بقائها على الأرصفة والطاقة الإستيعابية للمواني والأعماق التي تسمح باستقبال السفن العملاقة.
ولمجابهة تلك التحديات يتعين إتخاذ عدداً من الإجراءات لتطوير قدرات الموانئ المصرية من حيث رفع كفاءة البنية التحتية ورفع معدلات الأداء وخفض مدة بقاء السفن في المواني وتأهيل وتدريب ورفع كفاءة الكوادر البحرية المصرية في المواني وعلى متن السفن وتعميم نظام الإدارة الإلكترونية المتكاملة بالموانئ المصرية والتوسع في إستخدام نظام التداول الإلكتروني للبيانات وإعداد خطة للعلاقات العامة للتسويق للموانئ المصرية من خلال عقد المؤتمرات وحضور المحافل الدولية والتروييج للموانئ المصرية بكافة السبل المتاحة وإرساء هوية متميزة لمنظومة النقل البحري المصري.
وكي تنجح تلك الإجراءات في رفع كفاءة منظومة النقل البحري المصري وتنشيط حركة التجارة الواردة للمواني المصرية إضافة لتلك التي تدخل إليها كميناء عبور مما يؤدي إلى انعاش الاقتصاد المصري كنتيجة لزيادة مدخول تلك المواني وما يستتبعها من صناعات يتم انشاؤها في الظهير كصناعات تكميلية وخدمات لوجيستية تقوم على أساسها إستثمارات مباشرة وغير مباشرة فإنه يجب أن تقوم الدولة بتطبيق عدة تدابير حتمية للتعامل مع أساس المشكلات والتحديات التي تواجه منظومة النقل البحري المصري.
ومن أهم تلك التدابير وأكثرها إلحاحاً التنسيق بين الموانئ البحرية المصرية في ظل مقومات كل ميناء (طبيعية – لوجستية) لتحقيق التكامل فيما بينها وتقليل حدة التنافسية الداخلية لمواجهة التنافسية العالمية وذلك بتوزيع الأدوار قدر الإمكان تحت مظلة سلطة بحرية موحدة من خلال سياسة بحرية عامة وشاملة. والإتجاه إلى جذب مختلف أشكال الإستثمارات وأساليب التمويل من خلال إنشاء مشروعات جديدة ومحطات مختلفة الأنماط مع الأخذ في الإعتبار الإحتياجات الفعلية الحالية لكل ميناء ووضع خطة مستقبلية تعالج الإحتياجات التي ستطرأ مستقبلاً وتطوير المشروعات القائمة حالياً ورفع كفائتها التشغيلية والإدارية والتقنية. كما أنه لا مناص توحيد النظم الإلكترونية المتبعة بكل الموانئ البحرية المصرية وفقاً للمعايير والنظم المعترف بها عالمياً وذلك للإسراع بالدورة المستندية بقدر الإمكان وتحقيق تبادل البيانات إلكترونياً بين المواني المصرية بسلاسة وفاعلية.
ولا يجب إغفال ضرورة وضع سياسة تسويقية متكاملة للموانئ البحرية المصرية بإعتبارها وحدة واحدة وتحديد إستراتيجيات تسويق خدمات ومشروعات النقل البحري بشكل شامل وليس على أساس تنافس المواني المصرية فيما بينها. كما يجب دراسة الإستغلال الأمثل لظهير الموانئ لإقامة مراكز صناعية وخدمية تكاملية لتحقيق القيمة المضافة المرجوة وتوفير ظهير يسمح بعمليات التخزين كأحد أهم العناصر الجوهرية التي تمنع التكدس بالموانئ حيث أن تواجد ظهير صناعي ولوجستي على القرب من الميناء يضمن سهولة تداول البضائع وتوفير تكلفة النقل وكذا سهولة تصدير البضائع سريعة التلف وسرعة نقلها إلى الميناء ومنها إلى الخارج خاصة الحاصلات الزراعية والمنتجات الغذائية مما يعزز الصادرات المصرية فضلا عن إمكانية ربط المراكز اللوجستية بالميناء.
وعليه، وكما نرى من هذا العرض المختصر فإنه من اليسير تبيان المشكلات التي تواجه أحد أهم القطاعات التي يعتمد عليها انعاش الاقتصاد المصري ولكن يتبقى أن يتم معالجة تلك المشكلات والمعوقات بسرعة وجدية حتى يكون هذا القطاع الحيوي معوضاً وبديلاً عن الانخفاض الذي حدث في الدخل القومي المصري جراء عدم الاستقرار الذي تواجهه المنطقة بشكل عام ومصر بشكل خاص في السنوات الأخيرة الماضية.