الدكتور قدري نوار يكتب : حوار مجتمعى

0

إرتديت ملابسى وجلست لتناول الإفطار وقدح من الشاى مع زوجتى العزيزة، طبعت كعادتى قبلتين على وجنتيها، وفتحت باب الشقة، وهممت بالخروج إلى عملى، غير أننى نسيت أهم شىء اعتدت على أن اصطحبه معى فى كل رحلاتى اليومية خارج المنزل، فاستدرت، وأشرت إليها بكف يدى، واضعاً إياه على أنفى، فهمت زوجتى ما أريد بدون أن أنطق بكلمة واحدة، واستدارت وهى تتأسف مسرعة ناحية درج البوفيه لتلتقط سلاحى الدفاعى، وتثبته لى كالمعتاد على مقدمة أنفى وفمى.
على الدَرج، قابلت جارتى الأنيقة مدام هناء، ممسكة بيد طفلها الجميل عمرو إبن الثلاث أعوام، وبادلتنى تحية الصباح:
– صباح الخير يا دكتور.
– صباح الخير يا مدام،،،، صباح الخير يا ميرو،،، وداعبت شعيرات رأس الصغير الذى بدا غير مرحب بذلك، وأزاح يدى والتفت لوالدته:
– هوّ بيقول ايه يا مامى؟،،، وأيه اللى على وِشُّه ده؟،،،، هوّ عنده واوا؟.
إبتسمت الأم وهى تلكز طفلها، وابتسمت أنا.
جلست بجوار عم اسماعيل السائق، وبدأ الرجل يقرأ لى نشرة أخبار المدينة كالمعتاد، وتقريباً هى نفس نشرة أخبار الأمس، وكل يوم، فقد أصبحت كل الأحداث مكررة، حتى المشاهد اليومية فى الشارع مكررة، لكن بعض الأشياء الصغيرة لفتت نظرى، وخيل لى أن هناك تجديداً فى الشارع، وسألت عم اسماعيل:
– عم اسماعيل، هوّ فيه حاجة جديدة فى الشارع النهارده؟.
– حاجة أيه يا دكتور، ما كل حاجة زى ما هىّ أهى.
– لا يا عم اسماعيل مش هنا على اليمين كان فيه صيدلية، وعلى الشمال قدام كان فيه مطعم.
– موجودين يا دكتور، بس سيادتك مش واخد بالك.
وفهمت من الرجل أن كل الجديد الذى حدث هو فقط النمو المتطرد لكومى القمامة الذين كانا موجودين أمام الصيدلية والمطعم وجعلاهما يختفيان تماماً عن الأنظار، واستدركت:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، ودول قفلوا يا عم اسماعيل؟.
– لا يا باشا شغالين، وأكثر من امبارح كمان.
– طيب ازاى الزباين بتدخل، وأصحاب الصيدلية والمطع نفسهم بيدخلوا ازاى؟.
– ماهم كلهم حاطين لا مؤاخذة على وشوشهم كمامة زى حضرتك كده.
إمتدت يدى لتفتح راديو السيارة، ولفت نظرى إعلان متكرر عن دعوة لحوار مجتمعى يعقده السيد اللواء الوزير محافظ المدينة فى الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم باستاد المدينة لمناقشة مشكلة تراكم القمامة فى الشوارع، وزاد من اهتمامى بالموضوع هذا الكم الهائل من الإعلانات المعلقة على أعمدة الإنارة وجدران المنازل بهذا الخصوص.
كان لزاماً علىّ كواحد من المهتمين بالشأن العام أن أشارك فى هذا الحوار المجتمعى، وطلبت من السائق أن ينتظرنى خارج مقر عملى ليقود بى السيارة إلى الاستاد بعد ساعتين، ولكنه أقنعنى أنه يلزم أن نتحرك للاستاد مباشرة، فالمسافة بين مقر عملى والاستاد كيلومترين، وتحتاج السيارة لأكثر من ساعتين للوصول، واقتنعت بوجهة نظرة بعدما أفهمنى أنه لابد من عبور سبعة وستين كوم قمامة، ارتفاع أقصرهم ثلاثة أمتار، حتى نصل للاستاد، هذا بالإضافة إلى أن الكوم الكبير ” هكذا يطلقون عليه “، والموجود قبالة قسم الشرطة المجاور للاستاد غير مسموح لنا بالمرور عليه لأن المرور عليه اتجاه واحد، ولابد من الالتفاف حوله، وهذا وحده يحتاج لساعة.
أخيراً وصلت إلى الاستاد، وطبعاً لم يترك صديقى بيسو الفرصة دون استغلالها على أكمل وجه، فهو يحمل كومة من أعلام مصر، وكمية من القبعات الخضراء المكتوب عليها ” الاتحاد سيد البلد “، ومعه صديقه حمّو ممسكاً بدُف، ويقود مجموعة من الصبية، يرقصون على هتافه ” أهلى مين يا معفنين،،،، شحتة وبوبو معلمين “،،،، إبتسمت وضربت كفاً بكف، فلا هى مباراة لكرة القدم، ولا هو زمن الكابتن شحتة، والكابتن بوبو توفاه الله منذ زمن.
ضحكت أكثر عندما سمعت أحدهم ينبه بيسو، بأن الأمر لا يعدو سوى حواراً مجتمعياً دعا إليه السيد المحافظ، فقد كان رده صادماً:
– ما هو لا مؤاخذة بين الشوطين ح يعمل مزاد على الحمار المجتمعى اللى متبرع بيه رجال الأعمال، وح يجيبوا بتمنه عربية تشيل الزبالة من قدام المحافظة.
وبدأت فعاليات الحوار المجتمعى بالطقوس المعتادة، السلام الوطنى، وتلاوة من آيات الذكر الحكيم، ثم كلمة قصيرة للسيد المحافظ رحب فيها بالحضور، ولم ينس أن يذكر أن كل الأديان السماوية تحض على النظافة، واستشهد بآيات من القرآن الكريم ومن الإنجيل، وبالأحاديث النبوية الشريفة، ثم دعا مذيع الحفل الدكتورعبد السميع اللميع، عميد المعهد القومى للدراسات البيئية لإدارة الندوة، وبدأ الرجل فى تشخيص المشكلة، واستهل الرجل كلامه بأن هناك مشكلة، وهى تراكم القمامة فى الشوارع، وأن حل تلك المشكلة، لابد أن يكون بالتعاون بين كل الأطراف المشاركين فيها، وحدد تلك الأطراف؛ المواطن، الزبال، الكناس، النباش، سائق وعمال سيارة رفع القمامة، رئيس الحى، مدير الأمن، والمحافظ، ثم دعا كل منهم لإبداء رأيه:
المواطن: – إحنا عايزين الزبال يعدى على البيوت زى زمان ياخد الزبالة بأجر رمزى، ما هو ح يستفيد من بيع الزبالة.
الزبال: – موافق بس بشرط، الكواطن يفرز الزبالة الأول، ويحط لى الورق لوحده، والبلاستيك لوحده، والإزار لوحدة، والصفيح لوحده، وبواقى الأكل لوحدها، وأخد من كل شقة خمسين جنيه شهرياً.
يقاطعة المواطن وسط اصوات اعتراض من كثير من المواطنين الحاضرين: – ياسلام، ما بالمرة أفرز لك الجرجير لوحده والطماطم لوحدها، والرز لوحده، ده انت عايز واحد متفرغ بقى لا مؤاخذة، يا عم بلا قلبة دماغ، وح افرز لك كل حاجة لوحدها فين بقى يا خفيف، ده انا شقتى قد الحُق، يا دوب أوضة بمنافعها.
الزبال: – يا أستاذ من الأول ترمى كل حاجة فى كيس.
المواطن: – ياعم بلا خوته، هوّ فيه حد بيقدر يمشى كلامه على عياله، وبعدين هىّ الكياس دى كلها مش بفلوس، ناقص كمان تقول لى حط الكياس فى كيس لوحدها.
الزبال: – يا أستاذ ما العيال تتعود غصب عنها.
يتدخل الأستاذ شحاتة شَكَل المحامى، وناشط حقوق الإنسان الشهير غاضباً ، رافعاً يده، وصائحاً بصوته الجهورى: – أنا أرفض تماماً حديث الأخ الزبال، وأرفض أى تعنيف للأطفال، هذا يتعارض مع حقوق الإنسان، ومع الفقرة الأولى من المادة 32 من ميثاق حقوق الطفل، والتى تقول ” .تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرا أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارا بصحة الطفل أو بنموه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي “.
الكناس: – طيب يا جماعة أديكوا اتخانقتوا، والزبالة لسّه ما طلعتش من البيت، أمال أنا بقى اللى كل ما اكنس الشارع، واخليه زى الفل، واحط الزبالة فى الصندوق، ييجى النباش ينحكشها ويوسخ لى الشارع، ده أساساً لو لقيت الصندوق مكانه.
يتدخل المحافظ: – يعنى أيه؟، والصندوق بيروح فين؟.
الكناس: – بيتسرق يا باشا.
المحافظ: – بيتسرق ازاى، ومين بيسرقه؟
الكناس: – بتوع مصانع المخلل يا باشا، بياخدوه يعملوا فيه مخلل.
ويسأل المحافظ عن إمكانية وجود أحد من أصحاب مصانع المخلل، ويتقدم رجل بدين بكرش:
– أنا الحاج ابراهيم فلفل، صاحب مصنع مخللات، وبقول لسيادتك، حط نفسك مكانى، أعمل أيه؟، أخلل المخلل فين؟، أجيب منين براميل خشب؟، والخشب سعره ضرب فى العلالى، طيب ذنبه أيه المواطن اللى ما يقدرش يبلّع اللقمة بدون مخلل؟.
ويهب الأستاذ شحاته شكل للدفاع عن حق أصحاب مصانع المخلل فى استخدام صناديق الزبالة البلاستيكية كبراميل للتخليل، ويطالب المحافظ بضرورة توفير صندوق إضافى مع كل صندوق زبالة، وليكن بلون مختلف، ومكتوب عليه صندوق تخليل.

ويرد النباش: – هوّ النباش ده لا مؤاخذة مش بنى آدم، يعنى أسيب كارى، واسرق علشان تتبسطوا، طيب أكل أنا وعيالى منين.
وينبرى الأستاذ شحاتة شكل للدفاع عن حق النباش، ويسأل المحافظ، لماذا لا يكون للنباشين نقابة تدافع عن حقوقهم.
المواطن: – ما هو لو عربية الزبالة بتيجى فى مرتين تلاتة فى اليوم، والمخبرين شايفين شغلهم، مفيش ولا نباش ح يلاقى زبالة ينبش فيها، ولا ح يبقى موجود من أصله.
سائق سيارة رفع القمامة: يا افندية ده انا مش ملاحق، وباشتغل ورديتين، والعربية اللى انا شغال عليها يوم شغالة وعشرة لأ، وصناديق الزبالة كلها مشروخة ومخرومة، وعلى بال ما اشيلها، تكون نص الزبالة وقعت تانى فى الشارع.
ويعلق الكناس: – واكنس تانى يا غلبان.
المواطن: – الأخ السواق فاكرنا هنود، ما انت قبل ما توصل لمكان الصندوق، بتبعت المساعد بتاعك ينبه النباش، ويقول له يخلص بسرعة علشان انت جاى، وكل ده تحت عين المخبرين، ويا عالم بقى أيه اللى بيجرى من ورانا.
أصوات هياج شديد فى القاعة المغطاة بالاستاد، وتبادل للسباب، ويطلب المحافظ تعقيباً من رئيس الحى، وآخر من مدير الأمن.
رئيس الحى: – ما ذكره الأخ المواطن عار من الصحة، ولا يجوز التشكيك فى ذمة عمالنا.
مدير الأمن: – أرفض بشدة المساس بالشرطة، وبسمعة رجالها، إحنا كل يوم بندفع دم ولادنا علشان نحميكم.
تصفيق حاد، وتتعالى أصوات هتافات ترج الاستاد ” ما تقولليش ما تعيدليش،،، أمن بلدنا وغيره مفيش”.
يلتقط السيد المحافظ الميكروفون ويلقى كلمة موجزة، يشكر فيها كل من شارك فى هذا الحوار المجتمعى، ويطلب من المواطن أن يقدم مزيداً من التعاون وأن يصبر، ويداعبه قائلاً ” طولة البال تبلغ الأمل “.
كان أكثر ما لفت نظرى، هو إصرار المواطن على مصافحة السيد المحافظ، وإلتقاط صورة سيلفى معه،،،، وخرجت وأنا ألعن الزبالة، والزمن الزبالة الذى رمى علينا كل هذه الزبالة، ووجدت صديقنا بيسو مرتدياً طرطوره الأخضر، وممسكاً بعلم مصر، ويرقص من شدة فرحته، وسألنى:
– هوّ لا مؤاخذة باعوا الحمار المجتمعى بكام، ومين اللى اشتراه؟.
وأجبت: – ربنا وفق راسين فى الحلال، وأخده المواطن الحمار حق انتفاع.
د.قدرى نوار
القشاش

اترك تعليق