كنت قد نزحت إلى الإسكندرية فى نهاية الستينات من القرن الماضى، وكانت متعتى المفضلة فى هذه السن المبكرة، هى الوقوف فى شرفة منزلنا القديم التى تطل على مجموعة من الفيلات بحى سموحة، ذلك الحى الهادىء، ومتابعة ما يحدث فى الشارع. لفت نطرى ذلك الرجل الصعيدى بقامته الممشوقة وعوده النحيل الذى يشبه عود القصب، وجلبابة البلدى، والبالطو الأصفر وهو ينادى ذلك النداء الوحيد، الذى لم استطع أن أتبينه على مدار شهر كامل ” بيّا، بيّا “، فالرجل لم يظهر أى مظهر من مظاهر التجارة، فلا معه بضاعة يبيعها، ولا معه ما قد ابتاعه.وخجلت من أن أستفسر عن ماهية الرجل، وظللت على هذا الحال حتى استجمعت شجاعتى، وسألت زوج أختى، رحمهما الله، فأفادنى الرجل بسر ذاك الآخر، فقد كان ليس إلا تاجراً للروبابيكيا، ولما سألت، وماهى الروبابيكيا، عرفت أنها الأشياء القديمة التى لسنا فى حاجة إليها، والتى يشتريها هذا الرجل، ليعيد ترميمها، ثم يبيعها مرة أخرى. وبدأت أركز أكتر مع تاجر الروبابيكيا و زملائه، وأصبحنا من زبائنهم، نبيع لهم جرائدنا القديمة، وأثاثنا البالى، وكم من مرة كنت أستدعى أحدهم لمجرد التسلية، ولن أنسى ذلك اليوم الذى اشترينا فيه ثلاجة إيديال جديدة، وكان ثمنها حينئذ حوالى مائة وعشرون جنيهاً، واستدعيت الرجل، لأعرض عليه الثلاجة الجديدة، وبعد أن خبط عليها خبطتين، وتفحصها جيداَ، عرض عليّ أن يشتريها بخمسة جنيهات!، وكتمت ضحكتى، ورجوته أن يزيد الثمن، فقال لي: – لا مؤاخذة ده آخرها يا بيه، دى لسه عايزة شغل جامد. مرت سنوات، وبدأت العشوائية تزحف على كل شىء فى الشارع، وصار الحى كله ملكاً خالصاً لبيسو العشوائى، يفعل فيه كما يريد بدون حسيب أو رقيب، وكما ظهر بيسو الميكانيكى، وبيسو السباك، ظهر بيسو روبابيكيا. مخلوق أشعث الشعر، رث الملابس، يركب عربة كارو بحمار، ومظهره أقل هنداماً من الحمار نفسه، ويمسك بيده بميكروفون، ويصرخ بصوت قبيح أجش، غير مراع لمريض يحاول أن يخطف قسطاً من الراحة، ولا لطفل أعيا أمه المسكينة، وكل أملها أن يخلد للنوم ساعة واحدة، تستطيع فيها تلبية احتياجات المنزل، ولا لطالب يتمنى أن يستذكر دروسه فى هدوء ” بيكيا،،،، بيكيا،،،،، اللى عندها أى حاجة للبيع، نشترى تلاجة قديمة، بوتوجاز قديم، غسالة قديمة، مروحة قديمة “. كثيراً ما كانت الأمور تتأزم، حينما يحاول أحد أن ينبه بيسو للحد من الضوضاء التى يسببها، أتذكر آخر مرة، غضب بيسو غضباَ شديداً، وأعرب عن ذلك بخلع ملابسه ووقف عارى الصدر فوق عربته الكارو، ممسكاً بالميكروفون بيده اليسرى، رافعاً يده اليمنى للسماء وهو يهتف ” خليك شاهد يا ربنا،،،، عالم مفترية ح تطلع البنى آدم من هدومه،،،، مش عايزينا ناكل لقمة عيش بالحلال “، ويهم بمحاولة خلع سرواله وسط صياح النسوة فى شرفات المنازل،،، ويستمر فى وصلته ” يعنى يرضيك أقلع لهم بلبوص، علشان يصدقوا إنى غلبان؟ “. ذات مرة استدعيت بيسو روبابيكيا ليخلصنى من بعض كراكريب المنزل، وما زلت أذكر أنه كان من بينها نجفة كريستال بحالة متوسطة، وزوج من الكوميدينو كنا قد قررنا التخلص منهم جميعاً فى إطار استبدال حجرة المعيشة العتيقة بأخرى مودرن. تفقد بيسو البضاعة وهو يرسم تكشيرة على وجهه، ويظهر امتعاضاً كبيراً على ملامحه، محاولاً إيهامنا بأن ما نريد بيعه، لا طائل منه، ولا يستحق ما يمكن أن يدفع فيه، ثم وضع يده فى وسطه وهو مظهر لتكشيرة أكبر، وقال بصوت يقطر أسى ” شوف يا بيه، ولو إنها واقفة معايا كده بخسارة، ح اشيل على تلاتة جنيه، علشان بس استفتح بوشك السمح، وده لا مؤاخذة آخر كلام “. صدمنى عرض بيسو، وحاولت أن أفهمه بمدى جودة وأصالة البضاعة، فكان رده العفوى ” لا مؤاخذة يا بيه جودت مين وأصالة مين، وشرين مين، أنا شايف قدامى كراكيب، التلاتة جنيه كتير عليهم. ولكى يثبت لنا ببيسو صحة ما يدعيه، قام بضرب جانب الكوميدينو الأول ضربة قوية بقبضته فثقبه، ثم قفز فى الهواء نازلاً بكل ثقله على سطح الثانى فحطمه، وأسقط فى يدى من هول المفاجأة، وأكمل بيسو تمثيليته، أمسك بالنجفة ورفعها، ثم تركها لتسقط على الأرض حطاماً وهو يقول ” شوفت بعينك يا بيه، كلها حاجات كسر ومخوّخة ، وماتستاهلش حتى التلاتة جنيه “. تركنى بيسو لحال سبيلى وأنا أضرب كفاً بكف، وأترحم على أيام جميلة مضت، وأتذكر الماضى بكل جماله، وأنا أتحسر على تلك الغابة الأسمنتية القبيحة، التى حلت بشارعنا مكان الفيللات الجميلة، والحدائق الغناء، وجلبت معها ثقافة جديدة علينا، شديدة القبح، جعلتنى أقول لنفسى ” هوّ ينفع بتاع الروبابيكيا ده، يشترى مننا شوية أخلاق، على حبة قيم، على عادات على تقاليد جميلة لسه باقية عندنا من زمن الماضى الجميل، ويا ترى دول لهم تمن دلوقتى؟ “.
د.قدرى نوار
#القشاش