كان أول رمضان لى فى جمهورية بيسو بنكهة مختلفة، فبينما تعودت على أن أرى كل المقاهى والمطاعم مغلقة طيلة النهار فى الإسكندرية، كان النقيض تماماً هنا، وخاصة فى مدينة الحرفيين، فالحركة تدب عادية، ولا أبالغ حين أقول أنها زائدة عن الطبيعى بدرجة ملحوظة.
وصلت إلى ورشة الأسطى بيسو، سيارتى مفتوح بطنها، والصنايعية شغالين فيها، والأسطى بيسو نايم تحتها وبيصدر الأوامر لصبيّه بلية:
– مفتاح عشرة يا لا.
– جاهز يا معلمى.
– مش ده يا ابن العامية.
ويزحف ليخرج من تحت السيارة والسيجارة مشعللة فى بقُّه، والطافية مدَلدِلة منها، والعفاريت بتتنطط فى وشُّه، ويروح مناول بلية اللى كان واقف، مستسلم لمصيره ومطاطى راسه، ومجهز نفسه، ومنزّل كولة الجلابية، على قفاه، ووراه شلوت يكوِمه ع الأرض، ويحدفه فى جانبه بالمفتاح، ويبرطم:
– اللهم إنى صايم.
وأتدخل أنا لتهدئة الأمور، وكلمة منى، على كلمة من المعلم حنكورة صاحب القهوة يبدأ الأسطى بيسو يهدى، وهم يتمتم:
– أستخفر الله العزيم من كل ذنب عزيم.
وأنتهز الفرصة لأسأله على عربيتى، ويرد وهو مدوّر وشِّه للناحية التانية:
– أهى قدامك أهى يا أستاذ، شغالين فيها بأيدينا وسنانّا.
– ح تخلص على إمتى يعنى يا أسطى.
– بعد العيد بقي انشاء الله.
– بعد العيد أيه يا اسطى، ده احنا لسّه فى أول يوم رمضان، والعربية عندك بقالها اربع شهور، وكل ده على طرومبة بنزين بتتركِّب، أمّال بقى لو عمرة ماتور، كانت بالطريقة دى تدخل لها على سنتين.
– والنبى يا أستاذ بلاش نأورة، وأهى عندك أهى خدها، ومسامحك فى التعب اللى تعبته فيها.
– أخد أيه يا اسطى، ما تتكلم كويس.
– طب يلّا بقى من قدامى دلوقتى، أنى العفاريت بتتنطط فى وشى، ومش عايز أرد عليك، وقصّر بقى، الدنيا صيام.
ويهيج بيسو، ويتلم الناس، والمعلم حنكورة من جديد يحاول يهدّى الموقف، وزيادة فى الشهامة يعزم الجميع على شاى بالنعناع فى القهوة، وأول ما يحين وقت آدان الظهر، كل اللى فى إيده حاجة يسيبها، اللى بيلعب طاولة، يقفلها، واللى بيدخن شيشة، يحط اللاى على جنب، واللى كانت كوباية الشاى على شفايفه ينزلها، والكل يردد الآدان ورا المؤذن، ونقوم كلنا ورا المعلم حنكورة على الجامع نصلّى الظهر جماعة، ومعانا بيسو ماشى حاطط إيده على كتفى.
خرجت بعد الصلاة من الجامع، أحاول أوقف تاكسى، مفيش ولا تاكسى عايز يقف، مع إن كلهم فاضيين، وكل سواق منهم مطرطأ السيجارة فى بّقه، واحد فيهم حك عربية اللى جانبه، راح نازل سابب له ميت دين، واتدخّل راجل عجوز يهدى الاتنين:
صلوا ع النبى يا جماعة، رمضان كريم.
فضلت واقف فى نقحة الشمس احاول أوقف تاكسى، مفيش فايدة، وأخيراً واحد حن عليّا ووقف وسألنى، والسيجارة برضو فى بقّه:
– على فين يا أستاذ.
– قُرّيب هنا فى الدوران اللى جنب الاستاد.
– لا لا مؤاخذة مش سكتى، المدفع فاضل له ساعة، وانا مشوارى طويل، كل سنة وانت طيب، بص يا أستاذ خَرّم من هنا وخدها مشى اسهل لك، دى فركة كعب.
وقفت أضرب كف على كف، وفايت راجل كبير طيب، ماشى يقزقز لب، سألته عن السر، إبتسم وقال لى:
– باين عليك غريب مش من هنا، معلش الدنيا صيام، كل سنة وانت طيب بقى.
وحلف عليّا الراجل ميت يمين لازم أروح أفطر معاه، ولما رفضت قال لى:
– والنبى يا ابنى ما تحرمنيش من الثواب، ده انت عابر سبيل.