منحت مبادره ACWA شهاده للكاتبه عبير خالد يحيى لفوزها ف مسابقه القصه القصيره
عن قصه “سيره ذاتية”
سيرة ذاتية
كان لجارتنا كلب غريب الأطوار, أسود اللون صغير الحجم لدرجة ملفتة, يخاف مني كلما رآني, ما جعلني أتمتّع بإخافته, وتدبير المقالب له, يجفل و يركض هاربًا فتؤنّبه جارتنا على جبنه, وتسخر أمي من مياعته! ومع تلك الجارة دار ذلك الحديث الذي قلب حياتي رأسًا على عقب, والحقيقة أنّه كان ردّ أمي على تساؤل طرحته الجارة, التي أبدت انبهارًا شديدًا بجمال شكلي, بشعري الذهبي و عينيّ العسليتين وتقاطيع وجهي المنمنمة! لتردّ عليها أمي قائلة: ” الحقيقة يا( هدى ) أن (جوي) يشبه أمّه كثيرًا! هي شقراء مثله تمامًا, رشيقة القوام بدرجة لافتة, تقاسيمها ناعمة جدًا, والده أصهب اللون, متناسق القوام, من الآخر.. أبواه من الأكابر”.
-” ما هذا الكلام ؟ هل أفهم من ذلك أنني ابن بالتبنّي؟! وأن أمي ليست أمي, وأبي ليس أبي, وأخوتي ليسوا أخوتي؟! من أنا إذن؟ و لماذا تركني أبواي؟ وأين هما الآن؟ “.
أسئلة عصفت برأسي فأفقدتني النطق في الحال…! صار الصمت هو الصراخ الذي يصمّ مسمعي, احتلّ الذهول تقاطيع وجهيَ المنمنمة, وتسلّل الخوف إلى جنباتي المظلمة, فصار البيت بكلّ ما فيه من مخابئ وزوايا ضيقة ملاذي وسجني الأمين!
عندما أخذوني إلى الطبيب, شخّص الحالة ب ( صدمة عصبية شديدة أدّت إلى بكم مؤقت).
يوم حاولوا إخراجي من المنزل لأذهب معهم في يوم شمّ النسيم إلى المنتزه, غافلتهم و قبعت في شنطة السيارة التي نسوا إغلاقها بعد إخراج عدّة النزهة, وكنت قبلها أتنطّط فرحًا بمجرّد أن أسمع لفظ كلمة (المنتزه, شمّ النسيم), قصر الملك فاروق تحيط به مساحات شاسعة من الحدائق المنظّمة بطريقة مبهرة, بأنواع الأشجار الباسقة والزهور الفوّاحة والطيور النادرة, وعلى تلك المروج يفرش الناس البسط, ويفردون عليها سفرة الطعام, أغدو أنا مع أقراني نتقاذف الكرة, نتراكض ونتعارك, نلعب ( الاستغماية) ونباغت بعضنا بعضًا, بينما ينشغل باقي الأهل بتحضير الغداء من الفسيخ والرنجة والملوحة, وأمي تضطر لتحضير كلّ هذه الأنواع! فأختاي لا تحبّان الفسيخ, وتفضّلان الرنجة كأمّي, بينما أبي وأخي يحبّان الفسيخ مع الكثير من الملح والبصل والليمون والجرجير, أهلي يُتْبِعون الغداءَ بأكل الترمس الذي لا أستسيغه, لكن يكفيني أنني أكاد أنقلب على ظهري من تخمة أكل السمك, نبقى حتى الغروب ثمّ نعود إلى البيت…
لم أستوعب فكرة أن تتخلّى أمّ عن ولدها, ولا أب عن ولده, لأي سبب كان! وهذا الخوف أسقطه على حالي مع أمي التي أعيش معها! كنت أخاف أن تتركني كما تركتني أمي التي ولدتني, أذكر يومًا كانت تحضّر فيه حقيبتها للسفر إلى البلد للاطمئنان على جدّي, وقفت عند باب حجرتها حزينًا, دعتني للدخول بحنو, توجّهتُ إلى الحقيبة, وقفت في وسطها, وتبوّلت فوق الملابس الموضوعة فيها! صرخت أمي! هرع أخوتي إلى الغرفة, حاول أخي الكبير أن يحملني معنّفًا, فصرختُ في وجهه غاضبًا! صراخًا هو أقرب إلى الزئير, وعضضته من يده, صرخ متألّمًا, هرعت أمي تأخذني منه وتضمّني, و تطلب منه أن يدعني و شأني, قالت: ” لقد صرخ! أطلق صوتًا بعد غياب! هو يشعر بالخوف والغضب لأنني سأتركه وأسافر, اتركوني معه, سيهدأ, فقط اتركونا بمفردنا”. يومها ضمّتني ضمّة قوية, ولم تتركني إلا وأنا نائم بين ذراعيها! .
في الصباح كنت أنتظرها عند الباب, مددتُ يدي أودّعها بصمت, وهي تتلو على أخوتي إرشاداتها وتوصياتها بشأن الاهتمام بي, بطعامي و نظافتي…
تتراكم المخاوف في قاع ذاتي مع كلّ سيرة يتداولها أفراد أسرتي! هم لا يلقون بالًا إليّ, أنا الصامت الذي طال صمته, يظنّون أن حالتي تبعدني عن التواصل معهم, ومع ما يقولون, غريب هذا الأمر! فأنا لست مريض توحّد, أنا مريض رهاب فقط! أستطيع أن أشخّص حالتي بالفطرة التي وهبني إياها الله, رب الخلق جميعًا, ولا أدري هل هي فطرة حب البقاء والاستمرارية التي تجعل من هذا الخوف منجاة من الموت؟!
تأتي أختي الكبرى لتقصّ على أمي حكاية الرجل الذي يقف كلّ يوم على شاطئ ( سلسلة) المواجه لمكتبة الاسكندرية في منطقة الشاطبي, يأتي كلّ يوم في الصيف والشتاء وسائر الفصول, من الصباح إلى الغروب, يتأمّل البحر بداية من الشاطئ, ثمّ ما يلبث أن يدخل في عمق البحر, يغمره حتى وسطه, تحكي أختي أنه يفعل ذلك من صدمة أصابته يوم غرقت عروسه في البحر, وفي ذات المكان, وهما في شهر العسل, ولم يستطع لا هو ولا غيره إنقاذها! كانت منطقة دوارات أو كما يقولون (دوّامات).
يوم ملأت أختي ( بانيو) الحمام لتقوم بتغسيلي, تذكّرت تلك الواقعة, وتخيّلت أنني سأكون في عداد الغرقى! قاومتُ أختي وأنا أصرخ مرتعبًا, أدميت يديها عندما غرزتُ أظافري فيهما, أبعدها عني وأهرب لأقبع بعيدًا عن متناولها, تحت سرير أمي العريض…
وصلت إلى قناعة أن البيت فقط هو عالمي الذي ينبغي أن أعيش فيه, وأتكيّف معه, لكن وفق ما أراه أنا! لم أحب أن يشاركني فيه أحد سوى أهلي! كرهت الضيوف الذين يأتون إلينا ومعهم أطفالهم, كان أحدهم من الوقاحة أن حاول رميي من الشرفة لأنني لم أشأ اللعب معه! حملني ودفعني إلى سور الشرفة, وحاول دفعي باتجاه الشارع- ونحن على ارتفاع ستة أدوار- زأرت في وجهه- حالي عندما أغضب- هرب وارتمى يرتعد في حضن أمّه كالأبله, بينما ركضت أمي مرعوبة, وأنزلتني عن السور, لتقرّر بعدها أن أبقى في غرفة أخي لا أغادرها حتى يغادرنا الضيوف…