غزو من نوع خاص!
أنا ال (لكن) في ديجور الليل، وفي ركني الخاص بي في شرفة منزلي، مع كوب شاي بالنعناع، رفقة اثنين، كتاب ورقي ولوحة رقمية؛ جلست أتأمل أيهما سيحظى باهتمام أكثر الليلة، والمفاضلة كأنها صراع أصالة وحداثة أيهما سيغلب!
لم أقرر أنا بل اللوحة الرقمية، وهي تنير بوصول اعلانات جديدة حسم الجدل بينهما.
طالعت عناوينها على صفحة الفايسبوك، إحساسي يتناوب باطراد بين نقمة وحنق؛”خمس تنانير تجتاح موضة 2018..إحداها مستوحاة من رقصة الفلامنكو!”، “زوجة ترفع دعوى طلاق لأن الزوج لا يلبي حاجياتها على الموضة”، “موضة مايوهات هذا الصيف ستدفعك إلى شراء واحدا من كل نوع!”
ثم سيطر بعض من غضب؛ فوجدت نفسي أتساءل؛ أي سخف هذا الذي يستند عليه كاتب الاعلان ليروج بفكر مستهلك، إلا إن كان المصمم اصلا يستخدم فكرة مستهلكة من، فما كانت تنورة الفلامنكو بحدث جديد ولا مستجد ليعرضها وكأنه يقدم إبداعا خارق، أي جنون قد يتلبس الزوجة لتقاضي زوجها أمام المحاكم وتطالب باحتياجاتها على الموضة، وأي ذكاء يتفنن في تصميم مايوهات صيفية، للاغراء بالشراء؟ فتسير النساء راقصات متمايلات على ساحل الشاطئ كما لو كان حلبة مصارعة وتنافس بين عارضات!.
إنها لغة الموضة الحديثة، وثقافة التسويق؛ مصطلحات ذات ذوي لدى المتلقي لخلق فضول، وجر خطواته نحو العرض، إنه غزو من نوع خاص “غزو الموضة” والأمر ليس منوطا بموضة الثياب، بل بكل أنواعها، الفن، التكنولوجيا، آداب التعامل، الموسيقى، طرق الطبخ، التصميم الداخلي وغيرها، ستجد الزوبعة تقوم وسط الفنجان ويكتسحه فيغلب عليه نمط واحد، تتغير بشكل دوري وكل مامر الزمن قصرت المدة، فإن لم تتبع سيرها ستكون رجعيا ولست على الموضة.
لكن ما وجب الإشارة له والتشديد عليه أن الموضة ليست حديثة العهد، بل إنها تستمد تاريخها من عصر الفينيقيين، المصريين القدامى، والاشوريين.
إنها الموضة التي لا يختلف عليها اثنين؛ بينما تتعدد الآراء والأقوال حول الحديث منها؛ تتوافق وتختلف حتى وهي تتفق.
فان استحضرنا وجهات نظر عالمية؛ يرى “سان لوران” أن:(الأزياء تذهب وتتلاشى، لكن ما يبقى فقط هو طريقة التفكير واختيار كل هذا)
وما اشتهر عن “ماري كوانت”: (أن المرأة العصرية هي من ترتدي الملابس وليس العكس، فكونِي أنتِ البطلة في الأناقة وليست الأزياء)؛ والإثنين من أعلام الموضة العالمية، بما يمكن أن يكون توجيه صريح إلى اعتبار أن الموضة لا يجب أن تتحكم في المرء بشكل عبثي بل أن تكون له شخصية وذوق يميزه فيتحكم فيها لتلبية احتياجاته وفق الحديث والعصري. وهو ما تأكد عليه خبيرة مهارات الاتصال والقيادة الشخصية ” زين غنما” على لسانها معتبرة أن: (الانطباع الأول الذي يأخذه الشخص عن الطرف المقابل، يعتمد على ما يراه، والانطباع الأول يتم أخذه عن طريق اللباس والشكل العام، ثم تأتي بعد ذلك السلوكيات والأفعال؛ لتعزز الانطباع الأول). فمن يتبع الموضة وجب أن يوازن بين مظهره ودلالته؛ فهي الصورة التي تقدمها للناس تعبيرا عن نفسك؛ أن تكون على الموضة مطلعا بجديدها، متبعا صيحاتها، حريصا على اقتناء ما يعجبك والبروز بمظهر الحداثة العصرية لا يجب أن يخالف تقدير العين البشرية ورضاها.
ومن جهة أخرى فإن التشريع الإسلامي ركز على اللباس المحتشم وستر العورة بغض النظر كون المخاطب ذكر أو أنثى، فالخطاب الشرعي وجه للاثنين ولم يفرق بينهما لقوله عز وجل: “يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا”(سورة الاعراف:26(
لكن!
وجدت لكن، طريقها مجددا بينما تعود العناوين تحتل حيزا كبيرا من تفكيري؛ فتكبر لكن وتتضخم إذ أن العناوين التي قرأتها منذ قليل لم تكن إلا في مواقع عربية وخطابها موجه للسوق العربية كما الغربية في إطار الانفتاح والعولمة.
لكن؛ الموضة الحقيقية التي يعيشها الوطن العربي حاليا، هي التقليد؛ تقليد الآخر في كل شيء حتى بات النسخة طبق الأصل بنمطية متشابهة وموسعة لأننا ننسى اعتبارات عدة كون انبهارنا بالصورة عندهم يتمازج معه خصائص ثقافتهم ومجتمعاتهم، فنحاول تطبيقها على مجتمعنا باختلاف خصائصه وركائزه، فتطمس هويتنا، وشخصيتنا، و ميزتنا الشرقية، مذ بات الشرق ببصمة غربية، استبدلت ثقافتنا العربية الأصيلة بأخرى عصرية لا جذور لها وقابلة للزوال والتغيير والتطور كل حين وآخر.
لذا ولا شك؛ سيسجل التاريخ المهزلة السخيفة الحاصلة حالياً، سيسجل أن أحفاد عبد الرحمن الداخل الذي حكم الأندلس وزينت جدرانها فسيفساء الشرق، من كانت تسعى جيرانه لرضاه، حيث كان الغرب يقلد العرب، قد انقلبت الآية، شبابهم اليوم منشغل بقصات الشعر الغريبة تطالعك اسنام الجمل على مقدمة رأس الذكور منهم كما الاناث، حلق شوه الأنف لا الأذن، تراهم يلبسون بناطيل ممزقة، يبرز الجسد من فتقاتها في منظر مخزي يدعو للرثاء، سترى البعض منهم يصرف عشرات آلاف الدولارات يتشبهون بفنانين، منهم كيم واخرهم هيفاء، وقد أثبت علماء الأنثروبولوجي في أبحاثهم اختلاف الجمجمة العربية عن الغربية ويبذلون أموالهم في نحث عظام لتشبه خلق الله عبثا. سترى بنيانهم، اكلهم ، يشابه الآخر في ازدراء، وحين يحاول بعضهم إنتاج فيلم أو سرد كتاب يروي تاريخه، ستجده يميل بدلا عنه إلى نسخ فكرة فيلم أجنبي بمسحة شرقية ياللسخرية!، أو يكتفي بكتابة رواية تستهوي المراهقين وقد ضخ فيها بعض حروف الاشتهاء. ستراهم في حواراتهم يتلسنون بكلمات غربية في اجحاد للغتهم وقد كان حتى الأمس القريب شرف المثقف إتقان فصحى حصيفة، بل يسمون أبناءهم بأسماء غربية دليل تحضرهم.
يكفي أيتها لكن!
فلا أظن تأثيرك، سيوازي عنوانا تتصافى فيه رقصة فلامينكو و مايوهات الصيف. وانت في آخر مناسبة ارتديت فستان عمتك الذي مضى على صنعه عقد ونيف.
لا داعي لنخبرهم؛ أن لا جديد في الموضة ولا تجديد، أنها قصات من الماضي تعود في تشكيلة من ألوان الطيف .
فحملت كتابي ومضيت من مجلسي، فقط آخر جملة لك انت يا من تشاركني جلستي: “خالف تعرف، لكن بأناقة وليس بحمق، ليس شرطا أن تكون على الموضة بل الأولى أن تكون راض عما تكون أنت!”