الأحزاب السياسية كالسمك إذا خرج من الماء مات، وإذا انقطعت صلة الأحزاب بالجماهير ماتت. وفى العديد من الصحف ووسائل الإعلام انتقاد شديد لأحزابنا السياسية بأنها هامشية لا تملك القدرة على التأثير فى المجتمع، رغم أنها ضحية عوامل أخرى موجودة فى المجتمع تؤثر على قدراتها وعلى فرصها فى التأثير.
الأحزاب السياسية تنشأ فى المجتمعات تعبيرا عن تعدد المصالح لفئات المجتمع المختلفة وقد حدث ذلك لأول مرة فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة كانجلترا وفرنسا حيث أفرز الاقتصاد طبقات اجتماعية تتعارض مصالح البعض منها أو تتوافق مع البعض الآخر، فالطبقة الرأسمالية تتعارض مصالحها مع الطبقة العمالية وطبقة الاقطاعيين تتعارض مصالحها مع صغار الفلاحين، واحتكرت السلطة لتحقيق مصالحها، واحتدم الصراع الطبقى فى المجتمع ووصل فى بعض البلدان إلى الحرب الأهلية، وقد أدركت الطبقات المالكة والحاكمة عندها أن مصالحها مهددة بالضياع إذا لم تقبل تداول السلطة مع الطبقات الأخرى بوسائل سلمية وهى الانتخابات، فنشأت الأحزاب السياسية كقوى منظمة لتحقيق هذه الآلية السلمية لتداول السلطة.
وقد انقذت صيغة التداول السلمى للسلطة من خلال الانتخابات هذه المجتمعات من الانهيار أو الانفجار، واستقرت أحوالها السياسية ونمت اقتصادياتها، فى حين أنه فى بلدان أخرى قاومت الطبقات الحاكمة هذا التوجه، فعانت مجتمعاتها من الصراع الطبقى والاحتراب الأهلى، وخسرت كثيرا من ثرواتها نتيجة لذلك، وهو ما حدث مع دول فى أوروبا وأمريكا اللاتينية رفضت هذه الصيغة فخسرت كثيرا وعاشت عقودا من الصراع المسلح والحرب الأهلية.
التداول السلمى للسلطة هو جوهر الديمقراطية، ويتطلب النجاح فى تحقيقه إدراك الطبقات الحاكمة لهذه الحقيقة، وهى أهمية قبول التعددية الحزبية وما تطلبه من سمات لضمان الحفاظ على مصالحها فى المدى البعيد، أما البلدان التى أصرت طبقاتها الحاكمة على استمرارها فى احتكار السلطة واستئثارها بالثروة، فإنها قاومت نمو هذه الأحزاب.
وتمر مصر بهذه المرحلة منذ سنوات طويلة، وعاشت منذ ثورة 1919 صراعات حادة من أجل استكمال التطور الديمقراطى، وإذا كان هناك من يتهم الأحزاب السياسية بأنها المسئولة عن عجزها وعن تهميشها، فإنه يخطئ كثيرا ويتجاهل المسئول الحقيقى عن ضعف الأحزاب السياسية، رغم أنها وصلت إلى 104 أحزاب عقب ثورة 25 يناير ولم تسمح لها السلطة الحاكمة بالنمو إلى الدرجة التى تمكنها من المنافسة المتكافئة فى الانتخابات، ذلك لأن التعددية الحزبية تقوى أو تضعف بفعل عوامل عديدة تؤثر بشكل كبير على واقع هذه الأحزاب ومستقبلها. والأحزاب إذا حرمت من ممارسة نشاطها بين الجماهير فإنها تموت.
وقد اكتشفت الطبقات الحاكمة فى مصر العديد من الآليات التى تحرم الأحزاب من ممارسة نشاطها بين الجماهير. نبدأ أولا بالتشريع، حيث صدرت العديد من القوانين التى تحرم الأحزاب المصرية من الالتقاء بجماهيرها، مثل قانون التجمهر الصادر سنة 1914 الذى يعتبر أن وجود 5 مواطنين فأكثر يعتبر تجمهرا يتطلب الحصول على موافقة السلطات عليه وإلا خضع للعقاب، وكذلك قانون التظاهر الصادر سنة 2014 والذى يوجد به عشر قواعد توقع من يشارك فيها تحت طائلة العقاب بالسجن والغرامة الهائلة، وهناك العديد من القوانين التى تحرم الأحزاب المصرية من حقها فى الالتقاء بالجماهير مثل قانون الجمعيات الأهلية الذى يخضعها لسيطرة الأجهزة الأمنية بتشكيل لجنة تضم ممثلين للأجهزة الأمنية والإدارية وتعطيها الحق فى مراقبة أموالها ورفض أى تمويل لا ترضى عنه والموافقة على المرشحين لمجلس الإدارة، وهناك أيضا قانون المنظمات النقابية العمالية الذى ينص على وجود نقابة واحدة فى كل موقع عمل فيحرم بذلك العمال من حقهم الطبيعى فى تشكيل النقابة التى يرغبونها فى مخالفة واضحة للاتفاقيات الدولية الصادرة فى هذا الشأن من الأمم المتحدة، وخضعت الاتحادات الطلابية لنفس المعاملة، وبدلا من أن تكون مجالا لتدريب الطلبة على الاهتمام بشئون الوطن فإنها تقصر نشاطهم على النشاطين الرياضى والفني.
وبهذا كله فإن القوانين القائمة فى مصر تضعف المجتمع المدنى الذى يتكون من هذه المنظمات، والذى يعتبر المجال الأساسى للتجنيد منه لعضوية الأحزاب السياسية، لما يمتلكه أعضاء هذه المنظمات سواء كانت جمعيات أهلية أو نقابات عمالية أو اتحادات طلابية من خبرات العمل الجماعى والنشاط العام والدخول فى حوارات يكتسب منها الإنسان القدرة على طرح آرائه والدفاع عنها، فيكون بذلك مؤهلا لعضوية الأحزاب السياسية، ولكن إضعاف هذه المنظمات يحرم الأحزاب من عناصر قادرة على ممارسة العمل العام.
ويشارك الإعلام من صحافة وتليفزيون وراديو فى عزل الأحزاب عن جماهيرها وحرمانها من مخاطبة الجماهير وتوعيتها عبر الإعلام، وهناك قيود عديدة على تمويل الأحزاب، فلا تجد ما يكفيها لممارسة نشاط جماهيرى فعال.
وهكذا فإن هامشية الأحزاب المصرية ليست مسئوليتها .. بقدر ما هى مسئولية التشريعات القائمة والنظرة المتشككة من مختلف الأجهزة الحكومية.
(نقلا عن الأهرام)