سمعت صوتا يناديني من الخلف،استدرت واذا بها المشرفة، تشير الي بالتقدم نحوها.
تركت ما بيدي وسرت اليها .
القيت السلام عليها وعلى العجوز المَأْمُوهَة المقعدة ذات حركات الراس المتقطعة،وقرب كرسيها النقال الذي تجلس عليه،وقفت امرأة هزيلة ذات ابتسامة مهزوزة وبشرة شاحبة وعيون ذابلة مرتبكة.
ردت المشرفة السلام فيما تمتمته الاخرى بخفوت قالت المشرفة بود:
-‘هلا ساعدتها في تحميمها..”
-“اكيد..”
ناولتني المشرفة حقيبة صغيرة بلاستيكية ،علقتها على ساعدي ودفعت الكرسي النقال مشيرة للمرأة ان تتبعني،تحركت الاخيرة بتردد تسير بمحاذتي بدون ان تنطق بحرف واحد..
-“هل انت مساعدة جديدة..’؟”
باردتها بالسؤال لأكسر حلقة الصمت ،بدت لي متشنجة متوترة الى اقصى حد،فاردت ان تسترخي قليلا…اجابتني باقتضاب:
-“لا..”
اومأت برأسي …ولم اطرح اسئلة اخرى.
دقائق معدودة وكنا بداخل الحمام الكبير الدافىء،فتحت الحقيبة واخرجت المنشفة وادوات الاستحمام ،وضعتها جانبا،فتحت الصنبور وملئت سطل صغير بالمار الحار افرغته على مقعد رخامي طويل. تحسسته قليلا وهززت رأسي برضا …التفت للمرأة التي وقفت تراقبني بصمت…وانا اقرب الكرسي النقال من المقعد الرخامي :
-“اسمعي… امسكي العجوز جيد من تحت الركبة ولفي ذراعها حول عنقك وامسكي معصمها، لكن برفق وحرص…سأفعل المثل، اعد للثلاثة ونرفعها عن الكرسي…نجلسها هنا…المكان دافئ حتى لا تفزع من برودته..اتفقنا..”
تحركت المرأة باضطراب ووزعت بصرها بيني وبين العجوز والمقعد بارتباك ،وكان ما قلته امرا يصعب فهمه وتنفيذه….لم اكرر التعليمات. بل انحنيت اطبق ما قلته وانا اتطلع اليها بصبر، اطرقت ببصرها وانجزت ما طلبته منها، متحاشية النظر الي.
اجلسنا العجوز برفق. قلت للمرأة…فيما ارفع كم فستاني لمرفقي استعداد :
-“اخرجي الكرسي النقال للخارج حتى لا يتبلل…”
هزت راسها وانطلقت خارجة به ، توجهت الى العجوز امسك اناملها المرتعشة اسالها:
-مرحبا عجوزتي، تحبين الحمام..؟؟
لم تجب عجوزتي بل تطلعت الي من تحت اهدابها بدون تعبير،بنفس حركات الراس المائلة المتقطعة…. قرصت خذها بحب ومشاكسة فابتسمت لي ابتسامة خجولة سعيدة اضفت قائلة :
-..سننزعك ملابسك وسنحممك اتفقنا؟”
كانت المرأة قد عادت ووقفت بقربي تراقبنا باهتمام ،لم تتقدم لمساعدتي وانا اتنازع مع الذراع المتشنجة للعجوز حينما كنت انزع عنها ملابسها.
بصبر والرفق نجحت،متناسية الاخرى تماما ،فيما تراجعت هي تراقبنا بصمت وشرود، وقد عقدت ذراعيها على صدرها.
بعد الصمت الطويل،همست المرأة بصوت مخنوق خافت بد لي شبه باكي:
-“دعيها….اقصد….هلا تركتني احممها بنفسي؟”
نظرت اليها بسرعة. فأشاحت وجهها بسرعة عني، بقي بصري معلقا عليها قليلا ، ثم اومأت بالموافقة وتراجعت خطوة فيما اناولها المشط وقطعة الصابون.
تناولتهما مني تهمهم بشيء ما، وبدأنا العمل
العجوز كانت مستمتعة بالرغوة والماء الدافئ، بدت كطفل صغير ،كلما سكبنا عليها الماء تضحك بسعادة وتغمض عيونها وتهتز بطفولية استمتاعا وسرورا،تهمهم بحروف بينها وبين بعضها فاصل زمني قصير.
بعض العجائز كالأطفال اثناء الاستحمام،بعضهم يستمتع والاخر يتذمر. يتعبونك ويبهجونك،ومهما كانت متاعب تلك اللحظة فمتعة اخرها تنسيك مشقة اولها.
غريب كيف تنقلب الايام وتزرعنا السنون في مشاهد تتكرر بأدوار مختلفة…
ومشاعر ايضا مختلفة…
اولنا اطفال ضعاف نحتاج للاهتمام ،وآخرنا كبار ضعاف ويحتاجون ايضا للاهتمام.
بدأت المرأة في فرك جسد العجوز، فيما انشغلت انا بتدليك اصابع قدمها.
استمر الحال هكذا لبضع دقائق، صمت مطبق من طرف المرأة ، لا يقطعه سوى ضحكات العجوز وضحكاتي وصوت اصطدام الماء بالأرضية.
فجأة اخترق الصمت صوت شهقة مخنوقة عالية اتبعه صوت ارتطام القنينة على الارض بقربي ،جعلاني ارفع راسي لفوق بدهشة، المرأة كانت ترتعش بشدة، وعلى وجنتيها شلال دمع تسكبه بحرقة، والعرق يتصبب منها صبا، تحاول بصعوبة ان تكتم شهاقتها،فيتشنج جسدها وينتفض احتجاجا واختناقا،وامتزج الكل مع البخار الذي تكاثف حولنا، ليزيد المشهد مأسوية.
استقمت واقفة ببطء اعبس متسائلة بصمت، تجاهلتني بان مسحت دموعها وانحنت تلتقط العلبة من الارض بعصبية، سكبت قليلا من محتواها على راحة يدها، ووضعته على جسم العجوز وانكفأت تفرك ظهر تبكي بصمت ، لمحة بسيطة رانت مني لوجه عجوزتي، التي تغضن للحظة وانقلب حالها ، جعلني الامر انتبه فصحت بالمرأة :
-“انتبهي..”
قد اكون راعيت حالة المرأة النفسية وعذرتها، لكن ان يمتد مزاجها السيء الى عجوزة لا ذنب لها، فهذا لا اسمح به مطلقا، لهذا ربما خرج صوتي حاد، فقد انتفضت المرأة، وشحب وجهها اكثر، واحسست انها على وشك الدخول في نوبة بكاء هيستيريا ، تنهدت وحاولت جعل نبرة صوتي هادئة فأردفت اشرح بلطف:
-” جلد العجائز حساس..برفق…”
وكأنها لم تسمعني ، فقد نظرت الي نظرة زائغة فارغة ،وعادت لتكمل فرك ظهر العجوز ، يبدو ان الجو المتوتر قد القى بثقله على عجوزتي، من خلال نبرة صوتي ،وتوقفي عن سكب الماء عليها او انها استشعرته من خلال اصابع تلك الاخرى.
فقد توقفت عجوزتي عن الضحك، وسكنت وقد كسا وجهها تعبير يكسرني رؤيته في ملامح احد.
نزعت من اصابعها الليفة من يد المرأة، ووجهت اليها نظرة حادة،
-“هل المتك؟”
كان هذا سؤالي للعجوز فيما اسكب عليها الماء الدافئ ،لم تجب بل كانت تلعب بالصابون الذي علق على اصابع يديها ، وضحكت لي وكان شيء لم يحدث قبل قليل، وسألتني :
-“متى استحم؟”
رفعت فقاعات الصابون امام وجهها واجابت ضاحكة:
-“انت تفعلين الان…” اضفت اسألها فيما ابعد يديها عن عيونها مخافة ان يحرق الصابون عينيها:
-“انت بخير..؟”
لم تجبني ، بل نظرت لنفسها وسالت
-“سنستحم؟
قرصت خذها ، واجابت:
-“نعم…سنستحم”
حركت راسها بحركة غير مبالية، ونظرت لجهة اليمين حيث تقف المرأة، واشارت اليها بعيونها تسالني :
-“من هذه…؟
-“انها صديقة جديدة”
لم اجد غير هذا التعريف، فانا لا اعرفها، كثير من الوجوه تمر علي في الدار بعضها يظل والبعض ا
انها صديقة جديدة”
لم اجد غير هذا التعريف، فانا لا اعرفها، كثير من الوجوه تمر علي في الدار بعضها يظل والبعض الاخر يختفي، ولذاكرتي عيب انها تنسى الوجوه والاسماء ان مروا عليها مرور الضيف.
-“انها امي…انا ابنتها…”
توقفت عن السكب ، ونظرت مقطبة للاعتراف المفاجئ بنبرة مخنوقة، ومن فم مرتعش لجسد ينتفض نفضا ، وعيون متعبة باكية.
لما لم يدهشني الامر، صحيح اني لم اتوقع ان تكون ابنتها ، لكني ايضا لم استغرب ذلك، ربما لان ما عاد شيء يصدمني او يثير دهشتي .
هي ، اقصد المرأة، لم تكن تنظر الي، والا حتى الى العجوز المنشغلة عنا ، بل كانت تحدق للأرض.
-“كان علي فعل ذلك..جلبتها لهنا لاحمي اطفالي من ..”
انقطع حبل الكلمات وانخرطت ببكاء حار وسقطت القرفصاء على الارضية المبللة ، امام ركبة والدتها ، ترمقها ببصر قد غرق في نهر من الدموع الساخنة ، انسابت على وجنتيها الشاحبتين بغزارة، تطلعت للعجوز استطلع ان كان لحديث الاخرى اي اثر عليها، او حتى ان كانت فعلا تعي ان تلك الجاثية الباكية امامها ماهي الا ابنتها .
العجوز نظرت اليها نظرة خاطفة ، نظرة غريب لغريب، مسحة الالم التي مرت على محيا ابنتها ابانت ان تلك النظرة ، اوجعتها للغاية، ولا اعرف لما احسست لوهلة ، ان شيء من الارتياح مر مرور البرق وخبا.
نبرة باكية اكملت بها المرأة اعترافها تضيف قائلة بحزن شديد:
-“خيرني بينها وبينه…فاخترته… اخترته مع ما سيؤمنه لي ولأطفالي…مأوى ،ومدرسة ،وطعاما واستقرار ،وأب يدخل عليهم كل ليلة بالحلوى والالعاب…لكني لم اعد اطيقه… لا هو ولا حتى اولاده…هم يشعرنني انني مقيدة بهم… واني بسببهم رميت امي …اعرف ان لا ذنب لهم…من يلومني…؟”
صمتت لحظة تشهق بقوة وكأنها عادت من توها من اعماق البحر-استطردت تضيف:
-“يشعرني وجوده بالاختناق…صوت المفتاح وهو يدور في القفل معلنا وقت وصوله…انه شبيه بلحظة اعدام…..لحظة غرق…كابوس…لكني ….لا اترجم أحاسيسي امامه، كالعادة اكبلها… اكبتها عميقا خلف ستار من الرضا والترحيب الحار ،والتظاهر بالسرور والحب ما عدت اكنه له… كان علي الزاما ذلك…فمالفائدة ان اخسر بيتين…؟”
امسكت المرأة انامل العجوز اقصد والدتها، وقبلتها واستكملت حديثها:
-“امي كانت …بخير…تعيش وحدها تعتمد على نفسها…عندما كان يغادر زوجي صباحا للعمل كنت اذهب لبيتها اشاركها الفطور ..”
ابتسمت بحنين وحزن ، وتنهدت بعمق شديد واردفت باكية:
يالله ما الذ فطورها …طعمه مازال عالق في لساني…لم اعد بعد امي اتلذذ باي طعام…كله بعدها احسه بمذاق التراب…لا شيء يعادل ما كانت تعده .
براد امي القديم ورائحته…وخبز امي الساخن…وزيتونات امي…وزبدتها الخاصة…. كل شيء مازال يسكن انفي.
تعلمين ، عندما كنت اذهب اليها كل صباح،تعد هي الغذاء وانا ارتب وانظف ما تعجز صحتها عن فعله، نضحك ونثرثر ونتشارك النميمة،
امي كانت بارعة في النميمة…”
اختلست نظرة حزينة ضاحكة الي…مزيج غريب يتقاذفك بقسوة ، فلا تعلم على ايهما تستقر، فتسمح ان يمتزجا ، ليشكلا مزاج غريب ومؤثرا.
ذاك المزاج جعلني اتطلع لكليهما.
الى المرأة التي استحالت فجأة من كائن صامت متباعد ، الى شخص كثير الحديث ويود الوصال والتفاعل.
كان علي ان ابتسم بلطف لها، فكانت النتيجة ان اشرق وجهها بشيء ما، ربما هو شيء اقرب الى الامتنان….ربما.
اضافت المرأة بمرح كئيب :
-” كنا نختلس انا وهي النظر من تحت الشباك نراقب مطبخ الجارة، ماذا اعدت…نستمع لثرثرتها مع حماتها ،نراقب داخلهم وخارجهم ، امي تعرف كل ملابس الجيران من مراقبتها لسطح منازلهم وغسيلهم المنشور على الحبال..”
صمتت لبرهة ، ترفع انامل العجوز تنظر اليها بعمق واكملت:
-“امي كانت عجوزة الجسد بروح عشرينية خفيفة ضحوكة ونشيطة…تذهب للمسجد بعد صلاة الظهر لتحفظ القران الكريم وتستمع للدروس”
صمتت قليل تفكر، قبل ان يزهر وجهها المبلل بضحكة صغيرة قائلة بحب”
-” امي كانت تحذرني من مغبة النميمة وعيونها على كيس البقالة الشفاف ،وما يجلبه ازواج الجارات فيه عند كل مساء”
ابتسمت تلقائيا ، فكلنا لدينا تلك الام ،وان بطرق اخرى .وربما نصير نحن مع الزمن نسخة مما ذكر، اومأت برأسي بصمت واسترسلت هي بالحديث:
-“بعدها اعود لبيتي بوجبة معدة…وقد تركت لها وجبة للعشاء جاهزة ….اعود لأرتب منزلي واعتني به…لم يكن ذلك يزعجني البتة..او يتعبني ..بل العكس كانت رفقتها تمدني بالطاقة والحيوية…لأتقبل مزاج زوجي العكر وعبوسه وتذمره…وشقاوة التوأمين…وحماة وجدت في تعكير حياتي ، تسلية لها.
لم اهتم لكل هذا…..ماذا لو كان زوجي غير مراعي…عبوسا ونكد…وكثير الصراخ… يقضي ساعتين في المنزل..
ساعة بعد الاستيقاظ…وساعة بعد عودته من العمل، يستحم ويغادر للمقهى ولايعود الا متأخرا…ولا يزور امي ولا يسال عن احوالها
امي كانت تهون علي امره وأمر امه…كنت راضية رغم كل شيء…
هي كانت صديقتي الوحيدة وانا خنتها…
انا ام سيئة وبنت سيئة وصديقة سيئة…وزوجة سيئة …
انا كلي على بعضي حطام امرأة سيئة..
الذنب يقتلني … وحال امي والتفكير به كل ليلة ،يجعلني اود الموت”
هنا ، عرفت ان ذاك التدفق العاطفي قد وصل لمنتهاه، واستنزف كل مشاعر تلك المسكينة، فقد القت برأسها على ساق والدتها وانخرطت ببكاء مرير، مرير وعالي.
اقتربت منها اربت على كتفها، مشيرة اليها بالوقوف قائلة بلطف:
-“هوني عليك…انهضي…دعينا اولا نجفف والدتك ونلبسها والا مرضت”
وقفت المسكينة بصعوبة ، واسترسلت في بكاءها تقول بحرقة شديدة:
-“ليت ما أصابها ..اصابني انا…”
-“كانت ستعاني مرتين… لأجلك والتوأمين”
-“اليس هناك علاج لمرضها”
اجابتها بعملية فيما كنت منشغلة بحرص على تجفيف جسد العجوز بعد ان جلبت المنشفة :
-” للأسف… الزهايمر ينال من الذاكرة والسلوك والقدرات المعرفية والجسدية للمريض ،لا يوجد حتى الآن علاج له”
صمتت قليلا ارمقها بنظرة ذات مغزى واكملت:
-“الا أن في ابحاث في هذا المجال تتقدم من حين لأخر، فقط العناية بالمريض والوقوف بجانبه تستطيع ان تؤدي إلى النتائج مرضية ومع الأدوية المتاحة يمكن ان نلحظ تحسنا طفيفا”
-“استقضي امي ما بقي لها من عمر هنا،؟ سأموت كمدا قبلها….انا سيئة…انا عاقة…”
-“لا…بالمقارنة مع بعض الانذال الذين رايتهم هنا او سمعت عنهم، انت لست سيئة مطلقا،شجاعة منك ان تأتي لزيارتها، وتحاولي ان تعتني بها وتتواصلي معها. بعضهم من شدة الشعور بالخزي والذنب يصبح جبانا، فيخيل اليه ان مالا يراه يخفف الوطأة”
اومأت بتفهم متحمس، واقتربت بارتباك لتساعدني ، وان كانت مساعدة وهنة بأصابع ترتعش بشدة .
واخيرا جعلنا العجوز ترتدي ملابسها ، ولففنا رأسها بغطاء صوفي، وجمعنا الملابس المتسخة والمعدات ،تركت ابنتها تمسك بها بأحكام ، وجلبت الكرسي النقال من الخارج وضعناها عليه، كل هذا والمرأة مستمرة بالبكاء ، وكل حين كانت تتوقف لتبتلع غصة سحيقة ، اشعرتني فعلا بالشفقة على حالها . لكني لم اعلق على الامر بشيء، ساعات الكلمات لا تساعد بشيء ، وحتى اعرف القصة كاملة ، لا يمكنني الحكم او الادلاء برايي، ما كان يهمني ساعتها، هو المحافظة على العجوز آمنة من البرد والمرض، فجسد العجائز اوهن من يتصور البعض، تدهور صحتهم وارد بشدة ،والشفاء يتطلب وقتا طويلا وصعبا.
اخذنا العجوز لغرفتها المشتركة مباشرة.
لا اعرف لربما صمتي وجديتي اثناء كل تلك الدقائق بعد اعتراف المرأة قد فسر على نحو خاطئ، لان المرأة نظرت الي بشكل غريب وقالت بسرعة كأنها تحاول تبرر لنفسها امامي:
-“لم اكن لا افكر ان اجلبها لهنا، لو ان بقاءها في المنزل وحدها امسى خطر منذ ان بدأت بوادر المرض، وابو الاولاد وفقط من بضع ايام امضتها معنا ، بدأ ينزعج منها ، فقام بطردها عند اول خطا ارتكبته دون قصدا، اخذتني كرامتي الى التفكير بالرحيل معها ، وترك عالمه وللجحيم هو وكل شيء، لكن استوقفتني نظرات التوأمين، التفكير بحالهما بعدي ، كان ما كسر قوتي، وحماتي المصونة عرضت ان ارسلها لدار العجزة”
تطلعت الي تترقب ردة فعلي، لم استطع الا الابتسام بهدوء قائلة بشكل مباشر:
-“انا لا الومك ”
استرخت قليلا ، وتوجهت الى حيث امها التي ارهقها الاستحمام ، فأغمضت عيونها وغفت على كرسيها النقال، ضاقت عيونها واصابعها تتلمس برفق عروق والدتها النافرة المحفورة على يد نحيلة شاحبة، انسابت دمعة ساخنة وهمست بشوق وحزن :
-“مر وقت طويل جدا منذ ان رايتها … لا اصدق كم كنت جبانة، لقد خفت ان ارى نظرات اللوم والعتاب والقهر في عيونها، وارتأيت ان اطمئن عليها فقط هاتفيا من خلال المشرفة، ظننت ان هذا يكفي، لكن الشوق والالم كانا اقوى مني، فوجدت نفسي على اعتاب الدار …صدمني انها لم تعرفني… تمنيت لو انها كانت غاضبة ومقهورة مني بدل ذلك …..حالتها ساءت جدا، وحالتي ايضا…”
-” لا تقلقي عليها هنا، انها بخير…”
التفت الي تهمس بعذاب :
-“انها لا تتذكرني، لا تتذكر ابنتها الوحيدة”
-“ستفعل في بعض الاحيان، ربما تتذكرك وقتما لا تكونين هنا، وقد تنسى من تكونين وانت معها…كوني قوية فقط، سيكون الامر صعبا جدا .فقط كوني صبورة وقوية”
-“سآتي هنا كل صباح، وسأجلس معها ان تذكرتني او لا…لعل ذلك يطفأ جمرات باتت تستوطنني منذ ان جئت بها بنفسي الى هنا”
استقامت واقفة وحدقت بي لبرهة بتردد ، بعدها بصمت قصير سألتني متلعثمة:
-“أ صحيح ان ما اقترفته بحق بوالديك سيرده اولادك لك؟؟”
-“الله اعلم…. كل له قدر اوجده الله له لحكمة ما.. فقط تعلمي ان لا تثقي بجسدك ولا بمن حولك…فقط ثقي بالله… وان شاء الله خير…استأذنك سأتركك واياها، ان احتجت لمساعدة انا تحت النافدة خارجا في الحديقة”
هممت بالمغادرة، استدرت اليها وقد استوقفني حالتها المزرية ، فقد كانت تنظر للأرض بحزن وبؤس ، احسست ان ما قلته لها كان قاسيا نوعا ما، لذا استدركت الامر بالابتسام بحنو واضفت :
-‘لا تثقلي على نفسك ولا تحميلها فوق طاقتها. الذنب شعور فتاك ويمرض صاحبه، ولا نفع ان مرضت وتركت امك وحيدة…”
ارتجفت ابتسامة على طرف شفتيها وكتمت شهقة بنفس عميق ونظرت للفراغ،اضفت-:
-” اخر..اولادك لا دخل لهم بما تحملينه لوالدهم…ولا لما حصل لوالدتك، لا تخسري بيتين بمن فيهما اطفالك ونفسك”
لان شيء من محياها، وازهرت عيونها بابتسامة ممتنة، فأضفت مازحة :
-“اعتبريها كأنها مازالت في بيتها ،وتعالي اليها كلما استطعت ،لكن انتبهي ،ليس هنا اي غسيل على الحبال ، ولا اسطح للجيران، لكن لدينا مخزون مذهل من النميمة ان انضممت الى مجموعة معينة تحت في الصالة…”
ضحكت وضحكت انا ، وخرجت مقفلة الباب ورائي، تاركة المرأة بصحبة والدتها واتجهت للحديقة الصغيرة، جلست على حافة السور اطوف ببصري في كل جزء منها.
هنا تقبع العديد من الحكايا، بعضها كشف ، والبعض الاخر افصح عن نصفه فقط، فيما دفن الباقي تحت طي الكتمان و الصمت، ما بين معاناة لا تهمد ،ونظرات مقهورة وضائعة حائرة، ماضي ضائع ، وحاضر مع الغرباء ومستقبل مجهول .
لا ادعي معرفتي بكل قصص الدار، ولا يمكنني الادعاء ان باستطاعتي معرفتها وقتما شئت. وواثقة اني مع الوقت ساستصدم بوقائع وحكايا لم اتصورها. قد انشر معظمها وقد لا افعل.
لكن ما انا واثقة منه اكثر.
ان الحياة مازال في جعبتها الكثير لي.