لا يستطيع أحد أن ينكر أن تطور أسلوب الحياة بمرور الزمن، يصاحبه تطور فى مفردات اللغة، سواءٌ كان هذا التطور بظهور مفردات جديدة، بغض النظر عن رضائنا عنها، أو استيائنا منها، أو كان باختفاء بعض تلك المفردات، ولعل أصدق مثال على تلك المفردات المختفية من حياتنا المعاصرة، هى غالبية تلك المفردات الخاصة بالمرحوم الفنان عماد حمدى، الذى لو قًدِّر له أن يعيش للآن، لكان من المؤكد أن الرجل، رحمه الله، سيعيش مكتئباً، ملتزماً الصمت التام، لاهو قادر على أن يفهم كلام الناس، ولا الناس قادرة على أن تفهم ما يقول، فكيف يمكن أن يفهمه أحد عندما يقول لوالدته: “نهارك سعيد يا نينة، يظهر لى إن صحتك بطّالة، أنا ح اكلم الحكيم فى التلافون، وضروى م الصبحية أحجز لك محل فى الاسبتالية”.من المؤكد أن من يسمع هذا الكلام الآن لن يفهم منه سوى حروف الجر.
تذكرت هذه العبارة وأنا أتساءل، هل يفهم أحد الآن معنى كلمة الهمس، وكيف يمكن لنا فى كل هذه الضوضاء التى تحاصرنا أن نحس بمعنى أغنية الراحل فريد الأطرش “أول همسة”؟، وكيف ترد عندما يسالك طفلك الصغير: “بابا يعنى أيه همسة”؟، فلا أحد الآن يهمس، والكل يتكلم بصوت عال جداً بمناسبة وغير مناسبة، وأصبحت مكبرات الصوت فولكولوراً شعبياً.
الواحد يبقى راجع من شغله، ويتغدى، ويحاول ياخد له تعسيلة، تبص تلاقى شحط جارر عربية بحمار وماسك فى إيده ميكروفون ومعلّى الصوت ع الآخر وشغال مع نفسه:
“رتر الكورور بنص جيني، يلاّ يا حلوة قبل ما نشطّب، اللى عايزة كورور، الرتر بنص جينى”.
طبعاً لو حاولت إنك تكلمه من الشباك وتعترض بأدب، وتطلب منه يوطّى صوت الميكروفون، فى الأول ح يطنِش، ويعمل مش سامع، ولو طولت شوية معاه، ح يبدأ فى استخدام سلاحه الفتّاك ضدك، وح تبص تلاقيه بيدعى عليك فى الميكروفون:
“خليك شاهد يارب، العالم المفترية مش عايزانا ناكل عيش، حرام عليكم يا عالم، هوّ انتم عشان عايشين فى عمارات وعندك عربيات مش عايزنا نعيش”، ولا مانع من أن يضيف سيادته فى آخر وصلة الردح هذه حتّة اسكندرانى طالعة من مناخيره، ويعقبها الختام المعتاد: “عالم وسخة بصحيح”.
يبقى تاخدها من قصيرها وتحط مخدة على دماغك وتحاول توهم نفسك إنك ح تنام بدل البهدلة وقلة القيمة. وبمجرد ما تدخل السرير ح تلاقى الكوبلية التانى ابتدا، بتاع الخيار معدّى بميكروفون، بتاع الطماطم هوّ كمان معاه ميكروفون، وشوية شوية ويتنصب سوق ميكروفانات تحت البيت، وتختم بعربية نص نقل تقف تحت البيت وواحد صوته وحش قوى بيقرا آية من القرآن الكريم، ومالوش دعوة خالص بقواعد النحو والصرف، بينصب الفاعل ويكسر المفعول به، ويفتح المضاف إليه، وبعد ما يستعرض مهاراته فى النشاذ يقول: “توفى إلى رحمة الله تعالى المعلم حنفى السمّاك الشهير بحنفى كابوريا، والد كل من فتحى كابوريا، وفؤاد كابوريا، ورمضان كابوريا، وشقيق المعلم بيسو كابوريا والمعلم حودة كابوريا، وقريب ونسيب عائلات الزفر، والجحش، والبغل، وستشيع الجنازة من مسجد سيدى على أنح بعد صلاة العصر، والعزاء الليلة أمام المنزل 12 شارع مسجد البرنس – الحضرة القبلية، ولا أراكم الله مكروهاَ فى عبد العزيز لديكم”، وخللى بالك من عبد العزيز دى، ماهو أخينا لازم يتكلم بالنحوى.
يبقى خلاص مفيش نوم، تاخد لك قرصين أسبرين، وتنزل تتمشى لحد القهوة، تلاقى الشارع كله كلاكسات، وزفة عريس، وضرب نار، ما تقولش حرب، على كاسيتات مفتوحة على الآخر، على حفلة افتتاح محل جديد، وجوز سماعات جامبو بيسمّعوا الحتة كلها، توصل القهوة، كل الناس بتتكلم فى وقت واحد وبنفس تون الصوت العالى، تنادى على الجرسون، مش سامعك من دوشة الزباين، ومن صوت التليفزيون والراديو والكاسيت المفتوحين مع بعض.
يبقى الحل ايه غير إنك تشترى انت كمان ميكروفون صُغيّر تحطه على كتفك وتمشى بيه فى الشارع، وتخيل بقى كل الناس عاملة كده زيك، وانت ماشى كده تلاقى الحاج مصيلحى جارك مقابلك، وبيكلمك فى الميكروفون: “مساء الخير يا أستاذ صابر، فينك يا عم، مش باين ليه، أنا روحت لك عند الباشمهندس أحمد يسرى، حتى بالأمارة لقيت عنده الأستاذ فريد فتحى، ولعبت عشرتين طاولة وروّحت، بكره انشاء الله أعدى عليكم بالليل”، لسه ح تبدا ترد عليه، ح تلاقى الحاج وجيه عبد الباسط مقابلك برضو بالميكروفون، مع إن ده بالذات مش محتاج ميكروفون، لأن صوته فى العادى ماشاء الله أعلى من صوت الميكروفون اللى انت شايله وح تلاقيه بينادى عليك: “صبّورة رايح فين؟، ما ترمى يا عم الميكروفون المعفن اللى انت ماسكه ده وتجيب لك حاجة ماركة، إسمع، إنت رايح عند أحمد؟، أنا ح اعدى على جلال القماش عشان عامل مشكلة مع مراته، الواد عايز يخطب، وهىّ مش موافقة على العروسة، وجلال عايز يمّشى الموضوع، ح احاول أهدى النفوس، وانا جاى ح اجيب صلاح زكى ومصطفى لونج وأحمد كوبرى ونيجى، إسمع أجيب معايا عشا أيه؟، ح اشوف ام احمد طابخة ايه، كانت بتقول عاملة منبار، و ح اجى، إستنى خد معايا الأستاذ فرحات ابو لبن مدير المبيعات فى شركة سيكلام عايز يمسّى عليك”، وتلاقى نفسك بتتكلم مع الأستاذ فرحات اللى انت ما شوفتهوش قبل كده، وأعتقد إنك مش ح تشوفه تانى، وح تلاقيه بيكلمك عن واحد صاحبه عنده مشكلة طبية، وباعتبار إنك شغال فى مستشفى، يبقى ح يطلب منك تشوف له حد من الدكاترة صحابك يكشف عليه، أصل الواد عريس جديد لا مؤاخذة، والمسائل عنده ماتسُرِّش، والمشكلة داخلة فى طلاق، وطبعاً الأستاذ فرحات ماسك هو كمان ميكروفون.
ما تشغلش بالك بقى وتخاف إن حد سامعك وسامع الفضايح اللى بتتقال، لأن كل واحد مش سامع حتى صوته هوّ، مش بقولّك فعلا دوشة يا دنيا دوشة”.
د.قدري نوار
القشاش